التكوين اللغوي والتمكين المهاري للمحامين

إعداد د. محمد عبد الكريم الحسيني المحامي

انطلاقا من الغاية الكبرى والهدف العريض الذي تتوخى نقابة المحامين تحقيقه وهو:  إعادة المحاماة إلى سابق مجدها وتعزيز كل ما فيه رفعتها  ؛ يمكن اعتبار هدف “التكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة المحامين” من أهم البرامج الناجعة لتعزيز قدرات المحامين وتنميتهم وللنهوض بالمحاماة وإعادتها لسابق مجدها، إذ يُعَدُّ البناءُ المعرفي والتمكُّنُ المهاري من اللغة العربية من سِمات المحاماة المُزدهرة ومن أهم خصائص الرَّعيلِ الأول النَّابِه، أولائكم الآباء المؤسسين للمحاماة في مصر وفي العالم العربي أجمع.

ولا أظن النقابةَ العامة للمحامين غافلةً عن هذا الهدف التنموي وعن تحقيق ذلك البرنامج المهاري، وأعتقد أنها ماضيةٌ في توفير وتعزيز جميع المهارات التي تلزم المحامي في أداء رسالته على الوجه الأكمل؛ لا سيما المهارات اللغوية على وجه الخصوص وتمكين المحامين منها؛ لأنها من أخص المهارات لطبيعة عملهم القانوني، وألصقها بمهامهم، وألزمها لهم على وجه العموم .

ولمَ لا تُعْنَى النقابةُ العامةُ بذلك ….

وعلى رأسها فقيه قانوني كبير، ولُغَويٌّ مُصْقِعٌ نِحْرير، أَلَمَّ بمعارف اللُّغةِ ومهاراتها إلماما تُضْربُ به الأمثالُ، وهو ذلِكُم العَلَمُ الفقيه معالي الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب،؟!!! وهو من أعرف الناس بأهمية التكوين اللغوي للمحامين ومسالكه ومساراته المعرفية والمهارية .

وبناء على ما سبق فقد قمنا بإعداد مشروع متكامل حول التنمية القانونية للسادة القانونيين -وخاصة للزملاء المحامين- في العلوم اللغوية والمنطقية والمنهجية، وهذه ملامح عامة عن هذا البرنامج في جانبه اللغوي من حيث تعريفه وأهدافه ودواعية وأطره وآليات تحقيقه على أرض الواقع في سلسلة مقالات متتابعة تتناول :

 (1/5) التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين (مفهومه- أهدافه– دواعيه- نواتجه).

(2/5) ضرورات التكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة القانونين – وبالأخص المحامين “فرسان الكلمة”.

(3/5) أهمية ودواعي التكوين اللغوي والتمكين المهاري لسائر القانونيين في المؤسسات القانونية .

(4/5) طبيعة التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين.

(5/5) قوائم بأهم  المهارات اللغوية اللازمة  للسادة للقانونين

 

التكوين اللغوي للقانونيين (مفهومه- أهدافه– دواعيه- نواتجه) (1/5)

مفهوم وغاية التكوين اللغوي للقانونيين :

نقصد بالتكوين اللغوي للقانونيين : تهيئة البِنيتين المعرفية والوجدانية للسادة القانونيين – وخاصة المحامين – لاستيعاب مهارات اللغة العربية استيعابا يلائم أهمية تلك المهارات في الحياة القانونية العملية في جوانبها (الشفاهية والكتابية) في جميع الظروف وكافة المواقف القانونية التي تواجههم .

وبمعنى مساوٍ نعني بالتكوين اللغوي للمحامين أن يُحصِّلَ كلُّ محامٍ ما استطاع من معارف اللغة العربية ومهاراتها (الصوتية والكتابية) تحصيلا سلوكيا واعيا مُستَداما وأنْ يسعى للتَّمَكُّنِ منها وتطبيقها في:

أ- أعماله القانونية الشفاهية (في المرافعات والمخاطبات والمناقشات والمراجعات وسائر المواقف القانونية الكلامية) فيُؤدِّيها ملتزماً بالنطق الصحيح والأداء الفصيح.

ب- أعماله القانونية الكتابية (كتابة المذكرات والعرائض والعقود وسائر المكاتبات القانونية…) فَيُحكِمُ صياغتها بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ بليغةٍ خاليةٍ من الأخطاء .

وغاية هذا التكوين على سبيل الإجمال هو تحقيق الأصالة القانونية تكوينيا وتأدية رسالة العدالة واقعيا، وعلى سبيل التفصيل:

1-تمكين القانونيين – وعلى رأسهم السادة المحامين-  من أداء رسالتهم الدفاعية (كتابة ومشافهة) على أتم وجه باستخدام الأدوات والأساليب اللغوية الإبداعية السليمة مع إتقان النطق الصحيح والأداء الفصيح للغة القانونية.

2-تحقيق”الأصالة القانونية” والتي تتمثل في إتقان فنون القانون والتمكن من مهارات اللغة العربية معا وتوظيف المهارات اللغوية في الممارسات القانونية الفعلية ، مع التحلِّى بالقيم والخِصال الحميدة وعلى رأسها قيمتي العدالة والضبط ، ذلك لأن “الأصالة القانونية” من طبيعة مركبة فهي ذات طبيعة قانونية أساسية، وطبيعة لغوية مكملة ، وطبيعة قيمية تقويمية،  ينبغي للقانوني القيام بهن جميعا  وعلى قدر الانتقاص من أحدها على قدر الانتقاص من تلك الأصالة … والعكس بالعكس…!

3- ردم الفجوة وتضييق الهُوَّة ما بين علمي القانون وعلوم اللغة ومهاراتها – ذات الصلة بالقانون – وهي ما يمكن تسميته بـ”الفجوة اللغوية القانونية” ، وهي فجوة مُستَحكِمة لم يعرفْها الرعيلُ الأوَّلُ من القانونيين. حتى أصبح المطلوب الآن هو مجرد المطالبة بالقضاء على الأمية بلغة القانون ومهاراته … !!

أهمية ودواعي برنامج التكوين اللغوي والتمكين المهاري للمحامين :

للتكوين اللغوي والتمكين المهاري أهمية عظيمة على المستوى العام للعدالة والقانون وعلى المستوى الخاص بالنسبة للقانونيين -وعلى الأخص فئة المحامين- ومن هذين المستويين يتولد مستوى أعم وهو مستوى الدولة ككل وهو ما يمكن اعتباره “الداعي القومي (أو الوطني) للتكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة القانونيين”، لأنه يحقق مقومات دولة القانون، حيث إن التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونين ذو أثر بالغ في تحقيق دولة القانون وفي بسط العدالة واستتباب الأمن على مستوى الوطن ، ولا أعتقد أن هذا بحاجة إلى مزيد من التمهيد أو التدليل،ومن ثم فهذا بيان عن وجه هذه الأهمية وتلك الدواعي على المستويين العام والأعم على مستوى  العدالة والقانون وعلى مستوى الدولة من حيث تحقيق مقوماتها القانونية والأمنية ، يتلوه بيان الأهمية والدواعي بالنسبة للقانونيين مع تخصيص المحامين بمزيد من التفصيل في ذلك  .

التكوين اللغوي والتمكين المهاري يعد استجابة لنصوص الدستور والقانون

يمكن تلخيص الداعي العام والأعم للتكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونين بأنه استجابة مباشرة للنصوص الدستورية والقانونية ولأحكام القضاء بهذا الحصوص ، تلك النصوص التي رسَّمت اللغة العربية وِعاءً للقانون ولأحكامه وسائر متعلقاته وجعلتها مُقوِّما من مُقومات القانون بل والدولة أجمع في نظامها القانوني الوطني وبيانه في الآتي .

الأصل في لغة القانون ولغة التقاضي وما يتعلق بهما هو “اللغة العربية” بنص دستور2014م وكذلك في الدساتير قبله 1972، 2012م ، ففي مادة (2) :” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية” ، وفي المادة 19 من قانون السلطة القضائية لغة المحاكم هي اللغة العربية. وعلى المحكمة أن تسمع أقوال الخصوم أو الشهود الذين يجهلونها بواسطة مترجم بعد حلف اليمين”.

وتعبر محكمة النقض عن دلالة ما سبق ذكره من أن :” اللغة العربية. لغة المحاكم. (و) عدم ترجمة المستندات التي تقيم عليها المحكمة قضاءها إلى اللغة العربية. مخالفة للقانون.” [الطعن رقم 3888 لسنة 62 القضائية ] وأن “إجراءات التقاضي أو الإثبات أو إصدار الأحكام وجوب صدورها باللغة العربية. المحررات المدونة بلغة أجنبية شرط قبولها أن تكون مصحوبة بترجمة عربية لها ” [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]

ومقتضى هذه النصوص أن اللغة العربية هي شِعارُ الدولة ودِثارُها، وهي مُقَوِّمٌ رئيسٌ وجوْهريٌّ من مقوماتها ومن ثم كان كل ما يتعلق بها من النظام العام، بداية من لغة الدستور وصياغته، وكذلك سائر التشريعات والمحاكمات ومتعلقاتها يلزم أن تكون باللغة العربية، وإلا تسقط الأحكام والإجراءات ومتعلقاتها إلى هاوية البطلان كما نصت محكمة النقض أن “مخالفة ذلك أثره البطلان المطلق . تعلق ذلك بالنظام العام “. ثم إنها عللت ذلك بقولها “وباستناد الحكم في قضائه إلى عقد إيجار محرر باللغة الفرنسية دون تقديم ترجمة لها باللغة العربية مخالف للقانون….”. [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]

وهذا يعني أن موارد البناء اللغوي للنظام الفانوني الوطني في صياغته وبنائه وفيما يتعلق به من فَهمِ المعاني وتفسيرها وتحليلها واستخراج دلالاتها ومدلولاتها يجري على سنن ونظام اللغة العربية حتما لا جوازا .وهكذا الوضع في كل ما يتعلق بـ”اللغة العربية القانونية “ – ونعني بها لغة القانون وهي اللغة العربية ذات المضامين والدلالات القانونية – في رسمها وتكوينها وصياغتها وفي تراكيبها، وكذلك في النطق بها وتلاوتها وسماعها وإسماعها والاتصال بها والإيصال عبر أدواتها وفي سائر عمليات التخاطب والتحادث والتشافه وسائر مكتوباتها .

وهذا واضح وصريح وقائم عملا وتطبيقا منذ قضاء الفتح الإسلامي فما بعده، حتى القضاء الحديث، ثم القضاء المعاصر، وقد امتثل الآباء القانويون العظام لهذه الاصول وراعَوْها حقَّ رِعايتها …فكانوا وما زالوا خير قدوات لنا، ونعم السلف القانوني اللغوي لممارستنا ، فهم القانونيون النابهون على صراط العدالة المستقيم، ومن بهداهم يقتدي الأَصِيلُون في ممارستهم القانونية الشفاهية وفي أعمالهم الكتابية!

ودع عنك الاستخفاف باللغة ومهاراتها، والبلاغة ومُكْناتها، ومقاييس اللغة واشتقاقاتها، والقناعة الزائفة بأن كلمتين من هنا وجملتين من هناك تكفيان أو تبلغان بك إلى مصاف الكبار ،وتلحقان بك إلى رِكاب الأَصِيلين في القانون … هيهات.. ثم هيهات … !!! فما دعيٌّ كأصيلٍ وما عالمٌ كجهولٍ… !! فلن يبلغ بك إلا سعيٌ حثيث ودرسٌ حقيق لهذه اللغة العربية الشريفة الفصيحة ، ووقوفٌ راسخ على مهاراتها ، ومثابرةٌ جادَّةٌ على تحصيلها وتوظيفها؛ حتَّى تصبح عادةً تلازمك في أعمالك القانونية الكتابية والشفاهية .

واعلم أن القناعة بدون ذلك هو زَيفٌ من البرهان ودربٌ من الخُسران، وأنَّ ما دخلَ من تخفيفٍ ولَحْنٍ في الصياغات ودخيل مولَّد وغير فصيح من العبارات، فهو يجري على غير الأصل وهو من النادر الشاذ … وأصولُ ذوي الأصولِ والقامةِ القانونيةِ ألا يُقاسَ بنادرٍ ..!

كما ويعني ما سبق حقائق حاصلها :

الحقيقة الأولى : أن اللغة العربية هي وعاء التكوين والبناء للنظام القانوني الوطني (لفظا ومعنى- رمزا ودلالة – صياغة ودالة ) بداية من الدستور فالقوانين الأساسية ثم التشريعات واللوائح والقرارات … ، وأن أصول اللغة العربية وقواعدها ومعطيات علومها هي الضابط الرئيس في فهم نصوص الدستور والقوانين، وهي وحدها تمثل سلطة الاختصاص المتفردة في عمليات التفسير والتحليل والتأويل القانوني …وجميع عمليات التعميم والتخصيص والتوسيع والتضييق… إلى غير ذلك من الأصول اللغوية والقانونية في الفهم والتفسير .

*وعليه منْ أراد تميُّزا في القانون وفرادةً في الفهم والتحليل والتفسير للنصوص والوقائع ومآلات النصوص والأحكام … فباب ذلك هو الامتهار بعلومِ اللغة العربية والتضطلع بها …. ولا سبيل غير ذلك … رفعت الأقلامُ وأُوصِدَت الأبوابُ …!

الحقيقة الثانية: أن البناء اللغوي القوي والتمكن المهاري الذكي ، هو جزء من البناء القانوني ، وأن البناء القانوني الراسخ يقتضي بناء لغويا وتحصيلا حتميا لمعارف اللغة ومهاراتها، وخصوصا تلك التي تتعلق بعمليات صياغة القانون وتفسيره وتحليله وتطبيقه.

*فيا أيها المبتغي تميزا… ويا أيها المختطُّ مستقبلا قانونيا واعدا…ويا أيها الساعي لبناء قدراته ومهارته القانونية …

حيِّ على علوم اللغة …وأَقْبل على النّهل من مهاراتها والعللِ من معارفها … فذلك هو البناء القانوني الصحيح.

الحقيقة الثالثة: أنه يمكن اعتبار القاعدتين الدستورية والقانونية السابقتين ونواتجهما أساسا للــــــــــ”الأصالة القانونية ” ومعيارا لها، ومن ثم يمكننا القول بأن القانوني الأصيل هو ذلك المتمكن من علوم القانون وفنونه معرفة وممارسة، وعيا وتطبيقا … وهو ذلك المُحصِّل لما يلزمه من معارف اللغة العربية ومهاراتها وأدواتها لممارسة أعماله القانونية.ويمكن القياس على ذلك بقولنا :”بقدر قوتك القانونية مهاراتك اللغوية بقدر أصالتك”[1] مع عدم إعفال أهمية القيم والسلوكيات فهي عنصر رئيس من عتاصر الأصالة القانونية كما سبق ذكره.

*وعليه –- فلا تشاغل نفسك كثيرا -أيها القانوني الطامح- ولا تمنيها أماني الحالمين بالتميز في القانون، وتبؤّ مكانة في عليائه … أو بسلوك دروب عظمائه … دون بناء لغوي وتمكن مهاري، فالقانون واللغة صنوان لا يفترقان إلا عند الغافلين الحالمين …!!!

الحقيقة الرابعة : أن العناية بأوعية القانون اللغوية وتمكين القانونيين من معارفها ومهاراتها يؤدي إلى تحقيق مقومين من مقومات الدولة الحديثة وهما المقوم القانوني والمقوم اللغوي، وكلاهما مما يدعمان دولة القانون والعدالة والهُوِيَّة العربية ، ومن ثم يتحقق الحفاظ على الهوية اللغوية وعلى الأمن واستباب العدالة .

كذلك يمكن لنا الاستنتاج ضمنيا ما يلي من ملحوظات:

1-أن الضعف اللغوي معرفيا ومهاريا هو سبب جوهري في نقصان البناء القانوني الصحيح للقانونين عموما وللمحامين خصوصا.

2-أن ضعف الوعاء القانوني (أي: القوالب التي تصاغ فيها القوانين– أو تكتب بها الأحكام وغيرها…) يسبب مشاكل حقيقية وغير قليلة إزاء طريق تحقيق غاية القانون في حماية الحق وفي إقامة العدالة الناجزة وتحقيق هدف الردع العام والخاص هلى ما سيأتي ذكره.

3- ضعف الصياغة القانونية يؤدي إلى إشكالات جوهرية ونزاعات متطاولة في التفسير والتأويل ما بين سلطات الاتهام والدفاع والحسم بما يؤثر على المتخاصمين وعلى الوضع القضائي برمته ، وبما يُشغل مؤسسات العدالة عما كان فيه غُنية لو كان المشرعون والقانونيون (وخاصة القضاة وـأعضاء النيابة والمحامين والخبراء … ) ذوي معارف وأولي مهارات وافية كافية بلغة القانون بداية من صياغة مواده وإصدارها ثم التحاكم إليها وما يقتضيه ذلك من حسن فهمها والوعي بمقاصدها ليتسنى لهم إسقاطها على الوقائع .. وكشف حيثياتها ونعليل مسبباتها …!!

وها هي ذي محاكمنا تعج بتنازعات وخصومات غير قليلة في الفهم والتفسير والتوجيه بما يؤدي للطعون على الأحكام أو بالطعون الدستورية على النصوص …مع ما يتبع ذلك من تأخير في الأحكام وتعطيل المحاكمات وبطء في تحقيق العدالة …بسبب دلالة كلمة أو مدلول نص، أو مؤدى تركيب معين صيغت منه مواد الحكم، أو بتأثير سياقٍ ما سابقًا كان أو لاحقًا مرتبطًا مباشرة أو غير مباشرة… وسيأتي الإشارة إلى مؤشرات تقريبية لدراسة علمية حول أثر الضعف اللغوي على الخصوم ودوره في تعويق غاية القانون وإنفاذ العدالة الناجزة.

4- ضعف صياغة الأحكام وهلهلة بنيانها اللغوي وتدني حبكتها المنطقية يؤدي إلى اختلاف وتنازع – يَعظُمُ بقدر ضعف لغة الحكم والتباسها وتناقض منطقها…بما يؤدي إلى النفور عن التسليم بالأحكام والتماس العدالة بالاستئنافات عليها والطعن فيها والاستشكال قِبَلها…إلى غير ذلك بما يؤدي أيضا إلى بطء العدالة ومن ثمَّ الإضرار بالجاني وبالمجني عليه معا وبالمجتمع بأسره. فالعدالة الناجزة حقٌّ كما نص دستور 1971 مادة 68/1، ودستور 2014 مادة (97) “وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي وتعمل على سرعة الفصل في القضايا..” وفي قانون الإجراءات الجنائية مادة( 276) وغيرها من النصوص الوطنية ،كما نصت المواثيق الدولية على ذلك كما في المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان 1950م المادة السادسة فقرة (1) [ د.شريف كامل : الحق في سرعة الإجراءات الجنائية ص 31، ط2، دار النهضة المصرية 2018م]

*وهناك مؤشرات أولية لدراسة علمية لنا في طور الإتمام عن أسباب بطء العدالة وانغلال يد المحاكم عن التنجيز بها وتنكبها عن العدالة السريعة، حيث لاحظنا أنه من بين الأسباب الرئيسة لذلك سببٌ يرجع إلى أطراف الدعوة وموكليهم بسبب إشكالات ترجع في جملتها إلى التباس لغة القانون  أو لغة الأحكام وغموض صياغاته ، ومن ثم ينعدم وضوح دلالاتها وتثير الريبة أو الجدل حول معانيها ومراميها…إضافة إلى مشكلة ضعف المعارف اللغوية وعدم التمكن المهاري لدى بعض الوكلاء من السادة القانونيين بما يؤخر الأحكام ويطيل مدد التقاضي ……

وجملة هذه الأسباب تتعلق بلغة القانون من حيث ضعف الصياغة وعدم دقتها أو عدم وضوحها بما يتسبب في تردد دفاع الأطراف ويفضي إلى التنازع والطعون …. حتى إن فرضبات الدراسة لتذهب إلى أن قرابة 60% من معظم المشكلات في دوائر الحكم ومؤسساته ترجع إلى لغة القانون وما يترتب عليها من إشكالات .وجدير الإشارة إلى صحة العلاقة العكسية فيما سبق بما يصح معه القول يأته :” كلما زادت دقة صياغة الأحكام وتجلت رصانتها وعَلَى وضوحُها في التفسير والتدليل …كلما قلَّ وضعف التنازع حولها وتلاشي سلوك الأطراف وموكليهم عن اتخاذ ردَّات فعل قضائية بالطعن أو الاستشكال … وسلموا بالأمر المقضي إزاءها ومن ثم تتحقق العدالة الناجزة  [ جاري استكمال الدراسة حتى يمكن وصف مؤشراتها السابقة بالعلمية  على أن يكون لنا عودة لمزيد من التفصيل حول ذلك ].

والحاصل أن التكوين اللغوي الصجيج والتمكين المهاري المتين :

1-يساعد في تحقيق العدالة الناجزة  السريعة ( سريعة لا متسرعة) وهي حق دستوري ودولي كما سبق ..ويقلل من الاختلاف والتنازع حول تفسير النصوص بالطعن فيها والاستشكال عليها بما يؤدي إلى بطء العدالة ، والعدالة البطيئة ظلم

2-يعمل على تخريج أجيال من القانونيين العدول الماهرين المتمكنين والمؤهلين لأن يكونوا “الحَفَظَة العُدول للغة القانون وحاموه“، فيناط بهم حفظ لغة القوانين وصون مضمونها عن العبث بمعانيها وعن الانحراف في تفسيرها أو التصحيف والتحريف فيها وعليها …إلى غير ذلك من مُهدرات النصوص ومضِّيعتها.

ويمكن هنا ملاحظة حديث الَرَسُولُ -اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ” كما جاء في كتب السنة [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/353) وأخرجه البزار في مسنده (16/247)]

3– يحقق حفظ هيبة العدالة وقدر القانون وهذا فرع عن الأصل سابقه؛ إذ إن القانونيين العدول المهرة بلغة القانون هم من يُوكل إليهم حفظ الهيبة بسلوكهم اللغوي وتحصبلهم الراسح لعلوم اللغة القانونية ومهاراتها ، فلكل عِلمٍ لغته الخاصة وفنياته ومسائله ودلائلة،وكذلك علم القانون يجب أن تكون مصطلحاته وصياغاته وجمله وعباراته وكلماته كلها فصيحة صحيحة . إذ في هدر فصاحتها إسقاط لقيمتها.

4- التمكين العام لدولة القانون والعدالة ، فبحفظ القانون وأوعيته وقوالبه وبتمكين القانونيين من القيام عليها بالحفظ والتطبيق والمرعاة … يتحقق أحدا مقومات الدولة الرئيسة وهما المقوم القانوني والمقوم اللغوي ، وهذه من المسببات المباشرة لتحقيق العدالة الناجزة ، ولبسط الأمن المجتمغب والشخصي في ربوع الوطن .

[1] وما سبق ذكره عن الأصالة القانونية ليس هذه من باب التمييز ولا التحيز وإنما هو تشجيع على تحصيل علوم ومهارات اللغة العربية بالقدر اللازم لممارسة المهنة .

زر الذهاب إلى الأعلى