التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين (5)
إعداد د. محمد عبد الكريم الحسيني
المخاطبون بالتكوين اللغوي والتمكين المهاري من القانونيين
ونظرا لأهمية “مهارات اللغة العربية” في عالم القانونيين من حيث كونها عملية تكوينية ( بناء فكري معرفي وثقافي ) إضافة إلى أنها من حيث الغاية عملية تمكينية ( بناء مهاري تطبيقي) بقصد الممارسة والتفعيل في الأعمال القانونية الشفاهية والكتابية؛ فهذا إيجاز نستعرض فيه أهم الفئات القانونية المخاطبة بضرورة التكوين اللغوي المعرفي والتمكين المهاري التطبيقي، مع استعراض أهمية هذا التكوين وذلك التمكين وأثره الواقعي على مهامهم وعلى أعمالهم ومن ثمَّ أثره على “النظام القانوني الوطني” في العموم .
بداية لو نظرنا إلى العاملين في حقل القانون :
أولا: معلمو القانون وفقهاؤه وشرَّاحه من أساتذة الجامعات وسائر مدرسي القانون وهم الصف الأول وقمة هرم فقه القانون وتعليمه، والمفترض فيهم أكثر من غيرهم إلماما واسعا واستيعابا تاما لمعارف اللغة ومهاراتها بل وفلسفتها، لأنهم ما تبوَّءوا هذه المكانة إلا والسعي الدءوب والتحصيل الجاد لعلوم القانون ولشرائط “الأصالة القانونية ” كما سبق تعريفها ، وكما نصت لائحة الجامعات المصرية على ضرورة إلمام الطالب بلغة ثانية -وتحقيق ذلك من خلال اختبار معتمد( TOEFL- IELTS) – قبل التحاقه بالدراسات العليا أو نيله لأي من درجتي الماجستير أو الدكتوراه ،فهذا يخبر بالضرورة عن شرط لازم وأَوَّلىّ وهو الإلمام بمعارف ومهارات اللغة العربية عموما وفي المجال القانوني خصوصا في حق طلاب القانون فما بالنا بأساتذته وشُرَّاحه؟!
وعليه يفترض بأساتذة القانون وأكاديمييه ابتداء أن يكونوا مثالا وقدوة في تكوينهم اللغوي وتمكنهم المهاري من لغة القانون …،ولا ينبغي لهم تحصيلُ الحد الأدنى من المعارف والمهارات اللغوية ، بل يُفترض فيهم تحقيقُ الحدِّ الأعلى إن لم يكن الاستيفاء التام .
• ولكن هل هذا هو الواقع ؟!
• هل حصَّل أساتذة القانون معارف ومهارات اللغة القانونية ؟
• وهل استوفوا معايير التكوين اللغوي والتمكين المهاري نظريا وتطبيقا ؟
• وهل تدل محاضراتهم وتصنيفاتهم على هذا الاستيفاء ؟
• وهل انعكس هذا الإلمام المعرفي والمهاري على خريجيهم ؟
وماذا لو سألنا خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون على كثرتهم الكاثرة عن أساتذتهم وعن مدى تمكنهم من لغة القانون..! وهل استفادوا منهم في ذلك ؟
• وهل أًشرِبوا علم القانون بلغة القانون من أساتذتهم ؟
• وهل هناك مقرر خاص للغة القانون “اللغة العربية” يدرسونه مع المقررات الإجبارية لمواد قانونية باللغتين الانجليزية والفرنسية ؟
• هل وهل … هلات كثيرات لا تنتهي …!!!
إن كانت الإجابات بنعم فهذا خير وجيد في صالح متعلمي القانون وطلابه، ثم في جانب القانون كقانون، وفي صالح ونفع مجتمع القانونيين انتهاء إلى صالح المجتمع الذي يطبق فيه القانون…
وإن كانت الإجابة دون ذلك …فماذا تتوقع …؟
لا ريب أنها ستكون توقعات كثيرة وسيناريوهات أكثر ، منها على سبيل المثال :
1-توقع خريجين غير مُلمين بلغة القانون …. يعانون من غُربة لغوية واغتراب مهاري وضياع معرفي في سماع لغة القانون وفهمها وفي الحديث والتخاطب بمفرداتها وجملها وتراكيبها … إنهم قانونيون اسما فقط … إنهم حَمَلة أوراق يمكن القول عنهم إنهم اجتازوا أو نالوا درجة قانونية …وفي الحقيقة هم خواء من جوهر القانون ومن معارف لغته ومهاراتها.
وانظر إلى مساراتهم … وتعرَّف على أحوالهم:
• فكم منهم من يبحث عن عمل في غير مجاله ؟
• وكم منهم– للأسف – يتبرأ من انتسابه لكلية درس فيها القانون يوما ؟
بل تعمق وانظر كم منهم يعيش على سب أساتذته والانتقاص منهم … ؟!!
– ولا نوافق على ذلك أبدا، بل إن هذا من أعظم الفجور في حق الأساتذة الذين لهم كل التجلة والتقدير – وقد يكون سباب المتعلم بسبب تقصيره وبلادته في التحصيل والتعلم ، وقد يكون سبابه أحيانا بسبب إعضال الأستاذ وتعقيده وتعقد عبارته وإغلاق كتابه عن الفهم … وركاكة أسلوبه … وسوء تصنيفه …وقد يقع هذا قليلا أو نادرا …!
وعموما هي جملة أسباب يرجع جلها إن لم يكن كلها إما إلى لتقصير الخريج نفسه في استيعاب وتحصيل معارف ومهارات لغة القانون فلا يستطيع الوقوف على معانيها نظرا لاستغلاق أساليبها ومبانيها…أو لتقصير أستاذه في تحصيل معارف ومهارات لغة القانون وما تبع ذلك من تأثير في لغة محاضراته وكتاباته وفي صياغاته القانونية عموما.
2-فئات كثيرة من هؤلاء الخريجين ينتظمون في سلك المجتمع القانوني -هيأته ومؤسساته- يحملون غربتهم اللغوية عن لغة القانون ، مثقلين بمطالبات مديريهم ومتطلبات وظيفتهم في التعامل مع نصوص القانون ودلالاته … نافرين منها ومتباعدين عنها …لا يقومون بأعمالهم القانونية على وجه الصواب وإن قاموا بها لا يتقنونها ، وإن وُضعوا في مواقف جديدة تهربوا أو ترددوا …. يُعانون الحُبْسة والعُجْمة …!!
فبهم وبأمثالهم تضييعُ مصالح الناس … وتتلاشى معهم غايات القانون … وينحسر تطبيقه وتضييق مساحاته … ويشكو الناس تعطل المصالح وغياب العدالة … وعدم وفاء نصوص القانون بما وضعت له …!!!!
وعليه فإن تحقق التكوين اللغوي السليم والتمكين المهاري المتين لأساتذة القانون وفقهائه وشراحه يقضي على جميع الظواهر السلبية سابقة الذكر ، ويجنب المجتمع والوطن آثارها .
وعند إتقان أساتذة القانون وشراحه لمعارف ومهارات لغة القانون على الوجه الصحيح حينئذ ستتجلى معارفهم القانونية وتبرز تكويناتهم المهارية وسيتمكنون من إحكام القِيادِ اللُّغوي القانوني في شروحاتهم وفي مصنفاتهم بما يتمكنون معه من تربية جيل قانوني رشيد متشرب للمعارف القانونية ومستند إلى مهارات لغوية صحيحة في التلقي والتعلم وفي الممارسة بعيدا عن التعقيدات اللغوية والتأويلات غير الصحيحة .
هذا بالإضافة إلى أن أنه يساعدهم على:
1- توصيل المعاني القانونية ومضامينها ودلالاتها وسائر متعلقاتها بلغة صحيحة وضيحة تتصل بعقول مريديهم وطلابهم وسائر المتعلمين منهم وتلامس قلوبهم فيحققون بهذا رسالتهم في شرح المهمات وكشف المستغلقات وتوضيح المبهمات وتخصيص العامات من الدلالات…. .
2- تحقيق الصياغة اللغوية المحكمة للمعارف والتأصيلات والنظريات القانونية بما ينعكس على العملية التعليمية القانونية في جملتها ويجعل مخرجاتها نوعية فذة ، تعلم قواعدَ القانون ومضامينَه وتصيغها في قوالبها اللُّغوية المناسبة الصحيحة؛ فيتشرب المتعلم من معلمه علمي اللغة والقانون معا ، فينهج نهجه ويُخلفه في أساليبه وفي بيانه ويَحظى بما حَظِي به معلمه من التقدير والإكبار نَبني كما كانت أوائلنا تَبني ونَصنعُ مثلما صنعوا.
3- يعينهم تمكنهم كذلك على وضع المصنفات والمدونات والتآليف القانونية المتنوعة ما بين عامة ومتخصصة ، لتنهض بدورها مصادرَ ومراجعاً قانوية معتمدة سهلةَ المأخذ ، سلسلةَ التركيب ، واضحة العبارة ، رشيقة الكلمات … عذْبةَ الاختيارت تجمعُ ما بين الجدَّة والتشويق وما بين السهولة والتركيب ، فهي مصنفات عالية راقية حوت الخبرة والعبرة والاجتهاد والدرر القانونية …!
ومن ثم يقبل عليها المعنيون من المشرعين والقضاة والمحامين والخبراء وغيرهم، لقربها من نفوسهم فهما واستيعابا ، ولما حوته من عظيم المعاني وحسن المباني، فهي ذخيرة لهم وزاد لمعارفهم … بلغتها الرصينة السلسلة … وبدلالاتها الواضحة ، فيحسمون قضاياهم متسلحين بهذه المصادر الفائقة والمراجع الراقية العالية والتي هي عدتهم وعصمتهم حال الخلاف أو الاختلاف .
4- تتيح لغة القانون الراسخة ومهاراته المكينة لدى أساتذة الجامعات وشارحي القانون التناول القانوني العلمي المحكم والمنتج للأحكام القضائية شرحا وتفسيرا وتحريرا بما يساعد على فهمها ورصد مقاصدها وتعرف حيثياتها على الوجهة الصحيح بما يساعد الخريجين على تنمية مهارة التحليل والنقد العلمي الصحيح إزاءها ، والاقتداء بهداهم والنسج على منوالهم
5-ومن المهمات الخاصة بالنسبة لأساتذته وشارحيه وضع التقييمات القانونية العلمية الصحيحة والعادلة بالنسبة لطلابهم ومتعلميهم، لتحقيق العدل في التقييم وفي الحكم على الدارسين …. ويؤدي تمكنهم اللغوي من أداء تلك المهمة على أحسن وجه حسن وضع التقييمات بلغة قانونية علمية سديدة تجري على سنن لغة القانون وتمهد السبيل ما بين الدارسين لفهمها والوقوف على مراداتها بحسب تحصيل كل واحد منهم .
فلا يستوى من حصل علوم القانون مع معارف اللغة العربية ومهاراتها مع من حفظ مواد القانون وقصَّر عن صياغاته اللغوية الصحيحة وتنمية مهاراته بها، وليسعني المقام وأنا قريب عهد بالحصول على ماجستير القانون الجنائي من جامعة القاهرة أن أنقل شكايات وتظلمات زملائي من طلبة الدراسات العليا من تقصيرهم في تحصيل مهارات لغة القانون أو من سوء تحصيل أساتذتهم لها وما ينبني على ذلك من سوء التقييم ومن التباس لغة بعض أساتذة القانون فلا يستطيع الطلاب فهم لغتهم ولا استساغة أساليبهم …!!
فكم من طالب نابه قد جنت عليه لغته وقصوره في التعبير اللغوي القانوني ؟؟!!!
وكم من طالب آخر نبيه يقظ بذل جهده واستوفى تحصيله غير أنه تنكب بسبب سوء تقويم أساتذته وبسبب التباس أسئلة التقويم وإعضالها وكونها فقدت الدقة والوضوح، فلم يف هذا الطالب وأمثاله بما في ذهن أستاذهم وقد لا يعلم ما في ذهنه إلا هو نفسه ..!!! …
وكم من لجنة توقفت بسبب أخطاء كتابيه في ورقة الامتحان …فيثور التساؤل وتقع الحيرة فيذهبون للأستاذ واضع السؤال ويعلقون اللجنة انتظارا لتصحيح الخطأ …فيضيع الوقت ويضيع التركيز … وتحل النقمة ما بين المتعلمين والمعلمين …. ومن ثم تنعدم القدوة وينقطع التواصل …
[ ولقد تم رصد معظم هذه الظواهر وغيرها في الدراسة سابقة الذكر ولها مقام آخر ] والحاصل أن ما نشكوا منه من قصور وتقصير وتباعد عن معارف ومهارات اللغة العربية يتحمل أساتذة القانون وفقهاؤه نصيبا منها، بل نصيبا كبيرا… حيث لا يستقيم الظل والعود أعوج، مع وافر التقدير والاحترام والتَّجِلة لهم على أي حال …!!(3)
ثانيا: السادة أعضاء السلك القضائي
القضاة هم الناطقون بالعدالة والقائمون على حسم النزاع بين المتخاصمين ، ولا تخرج أحكامهم أو قرارتهم عن منطوق شفوي أو مكتوب رسمي ، وفي كلتا الحالتين لا استغناء لهم عن الإلمام بمعارف اللغة ومهاراتها ، فعظم مكانتهم القضائية وخطورة أدوارهم القانونية توجب عليهم إلماما خاصًا بمعارف ومهارات اللغة العربية، ذلك أنه مهما ألم القاضي بالوقائع وأحاط بالسياقات العامة لقضيته فإنه لا يستغني بحال عن لغة القانون لكي يفسر النصوص ويستخرج الدلالات ويُعمل مقتضياتها على الواقعة .
ثم إن أهمية اللغة لتعظم عنده بقدر عظم وخطورة حكمه؛ لأنه يقضي بالحقوق ويقضي بالعقاب، وقد يقضي بإزهاق روح أو تأبيدها في السجن ، وهو في كل ذلك لا ينطق عن هوى نفسه وإنما عن نص قانوني وعن اعتقاد قضائي كونه على مدار قضيته، فإن اعتمد القاضي في تكوين عقيدته وتشكيل موقفه من قضيته على الوقائع والدلائل والسياقات المستمدة مباشرة من ذوي الوقائع ومن الأوراق فإنه يحتاج إلى لغة القانون بحسب أوراقها ، بينما هو في إسقاطه للنصوص على الوقائع فإنه يرتكز بالكلية إلى لغة القانون ابتداء وانتهاء فبقدر معارفه منها وتمكنه من مهاراتها سوف يتسني له إسقاط النصوص القانونية على واقعته وتقويمها وتحكيمها انتعاء إلى القضاء بها، بما يعظم أهميتها ويُجلُّ خطورتها في تكوين قضائه وفي حسم قضيته .
وعليه فإنه كلما كان القاضي متمكنا من لغة القانون راسخا في مهاراتها فإنه :
1- يطبق نصوص القانون ويحقق معانيه ويستجيب لمقاصد الشارع … وذلك حاصل عن وعي القاضي ومن مجموع خبراته إضافة إلى بنائه اللغوي وتمكنه المهاري من علوم اللغة.
2- يكون ناطقا بلسان العدالة وموقِّعٌ عنها ومعبرا بها بناصع بيانه وفصيح لسانه فنطقه عنوان الحقيقة وحكمه دليلها وسندها،فيحقق بذلك هيبة القانون ، ويطمئن القلوب ويبعث الأمن في النفوس .
3- يحقق أهداف الأحكام القضائية في بسط العدالة وفي تحقيق الردعين الخاص والعام ، إذ إن بيانه بمثابة الزجر والوعيد لكل من تسول له نفسه تجاوز دائرتي الحق والعدالة ، وبقدر تمكنه من معارف اللغة العربية ومهاراتها بقدر ما تحقق أحكامه غاياتها.
وعلى الجانب الآخر …بقدر ضعف القضاة في التكوين اللغوي والتمكن المهاري بقدر ما :
1- تضعف العدالة وتختلط أحكامها على المُدَّعِي والمدَّعَى عليه، بل وعلى السامع والقارئ لمسبباتها وحيثياتها ، لضعف صوتها عن الأداء الصحيح والبيان الفصيح ، ولضعف مكتوبها عن قرع العقول بها وتحريك النفوس معها .
2- تضعف صياغة الأحكام وتطول المظالم نظرا لتناقض الحكم وانبهام حيثياته، ومن ثم تثور الإشكالات ، وتخلتط الدلالات على المدَّعِي والمدعَى عليه ، وتتوقف العدالة ريثما يعرض الأمر على جهات قضائية أخرى … وهكذا يقوض الضعف المعرفي والنقص المهاري أحكام العدالة،بل ويصبيها بالشلل أحيانا .
3-تضعف هيبة القضاء في المجتمع ، وتنزل من عزتها القعساء إلى ما دون ذلك على قدر فقدها لإحكام لغة القانون ولجمال بلاغته وعذوبة عبارته، ولم لا … وهي لغة القول الفصل النائية عن كل هزل ، ذات الدلالات المحكمات والعبارات المعبرات، والمقدمات المنطقيات والنتائج المعللات ….لغة هي عنوان الحق وبيان الحقيقة…؟!!
ثالثا: السادة المشرعون أعضاء المجالس النيابية
وهم أعضاء المجالس التشريعية وخاصة أعضاء اللجان التشريعية ولجان الصياغة وغيرها من اللجان القانونية المباشرة ـوقد سبقت الإشارة إليهم عاليه، ويُعدُّ التكوين اللغوي والتمكن المهاري في مقام الواجب بالنسبة لهم حيث تكوينهم اللغوي المتين وتمكنهم المهاري الراسخ ييسر من مهامهم ، ويجعلهم أقدر على الوفاء بحق صياغة القوانين عليهم من سلامة بنيانها وصحة عبارتها وصياغتها في قوالب لغوية شريفة تعبر عن معانيها، فالمعني الشريف يستحق اللفظ الشريف كما قال الجاحظ :”إياك والتوعر فان التوعر يسلمك الى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك ومن أراد معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما ان تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما ” [الجاحظ: البيان والتبيين ص86، تحقيق : المحامي فوزي عطوي ، دار صعب – بيروت ط1 1968م] وكأنه يريد أن يقول إن المعاني ملقاة في الطريق يعرفها كل أحد، غير أن اللفظ الشريف هو الذي يعطي المعنى قيمته.
وهل هناك أشرف أو أهم من الصياغة القانونية بالنسبة للوطن ؟!! فعلى قدر إحكام صياغة القوانين على قدر ما سيكون وضوحها ودقتها، وعلى قدر ما ستكون سلاسة تطبيقها وتناولها وتداولها بين أطراف التداعي وبين كل معنيٍّ بها ، وبقدر ضعف التكوين المعرفي والتمكن المهاري للسادة المشرعين بقدر ما ستكون القوانين مهلهلة مهترئة لضعف صياغاتها ولهشاشة بنيتها ، ويُتوقع أن تثار الإشكالات حولها ويثور التنازع في فهمها … لما شابها من تزيُّدات وتناقضات وإشكالات تًعيِّبها وتضعف من قيمتها .
رابعا: مأمورو الضبط الضبط القضائي
يتعدد رجال الضبط القضائي ويتعدد اختصاصهم المكاني … وتجنبا للتفصيل يمكن القول بإيجاز بأن أعمالهم بنص القانون كثيرة وهي إجراء التحريات وقبول البلاغات والشكايات والتحفظ والضبط والتفتيش بعد استصدار أو صدور إذن النيابة … وفي معظم هذه الأعمال يجب على مأموري الضبط تحرير محاضر بالتحريات وجمع الاستدلالات، وفي جميعها يحتاج مأمور الضبط إلى الإلمام ولو بالحد الأدنى من معارف اللغة العربية ومهاراتها؛
1- لكي يكتب محاضره ويًعدُّ مذكراته بلغة صحيحة محكمة تنقل الوقائع وتسجل الشهادات وتصف المضبوطات وتحيط بسياقات الواقعة ومحيطها وصفا دقيقا …. إلخ .
2- لتساعده على التزام الدقة والوضوح والحذر من الحشو أو التنقص أو التعميم في مقام التخصيص أو التخصيص في مكان التعميم . ومن التزيدات التي تغير الحقائق …إلى غير ذلك من أوجه القصور..وإلا تولد عن محضره تناقضات تعصف به ، ونواقص تَئِدهُ في مهده …بما يسمح بأن تتخله الثغرات التي تضيع جهده وتنقض غزله.
حامسا: وبالنسبة لمحاضر الأقسام وهي تدخل في سابقها على سبيل الإجمال إلا أننا خصصناها لخطورتها ، ينبغي إلمام الضابط المسئول أو المراجع إضافة إلى أمين الشرطة – مع وافر التقدير والاحترام لنبلائهم ومثقفيهم وهم الكثرة الكاثرة – الذي غالبا ما يكتب المحضر بالحد الأدنى من المعارف والمهارات اللغوية وإلا وقع المحظور..! وحينئذ حدِّث ولا حرج عن الكوارث التي كثيرا ما نطالعها ابتداء من سوء الخط وانبهام رسمه وسقوط وصلاته وفصلاته وسائر علامات ترقيمه ، فضلا عما يلاحظ من :
1- الكتابة بلغة غير واضحة بالمرة يصعب إلا على الخبير قراءتها.
3- المعاني المبهمة التي تحتمل وجوها كثيرة ولا يمكن حملها على وجه واحد ومن ثم يتفكك بنيان المحضر .
4- الجمل الخاوية والعبارات المهلهلة والسرد الناقص والوصف القاصر إلى غير ذلك من العوار والعورات …
وهو ما يضيع حقوقا كثيرة وخاصة في محاضر الضرب والسب والقذف والتحرش وسائر جرائم الاعتداء على العرض والنفس…
سادسا: الكتبة في المحاكم والنيابات والعاملبن في الشهر العقاري والخبراء سائر العاملين في قطاعات العدالة
وجميعهم يتدرج تحت فئة القانونيين، ويلزمهم تحصيل الحد الأدنى من معارف اللغة العربية مهاراتها لأنهم يتعاملون مع القانون وفي وسط قانوني ،ولصيانة كتاباتهم عن الخطأ وهو ليس كأي خطأ، بل هو خطأ ينبني عليه ضياع في الحقوق أو تغيير لصفاتها وذويها ومراكزها وفي الحد الأدنى تأخير لها وتعويق للعدالة بحقها.
وعلى سبيل المثال : العاملون في الشهر العقاري ، والخبراء ، وأقلام المحضرين والكتاب…وكتبة المحاكم و النيابات …..بقدر معارفهم اللغوية ومهاراتهم الشفاهية والكتابية يكون صون الحقوق والعمل على تحقيق العدالة ، وبقدر ضعف معارفهم وقصور مهاراتهم بقدر ضياع الحقوق وتأخرها وتعويق عمل العدالة ، وهذا من الخطورة بمكان.
وهكذا الشأن في كل العاملين في الحقل القانوني، بحسب تكوينهم اللغوي وتمكنهم المهاري يقدر ما يكونون في صف إحقاق الحقوق وبسط العدالة الناجزة ، وعلى الجانب الآخر فإن قِصَر معارفهم وصعف مهارتهم تصبُّ في باب ضياع الحقوق وإهدار أحكام القانون وفي تأخير العدالة بل وانتكاسها ، والعدالة البطيئة ظلم [ د.شريف كامل : الحق في سرعة الإجراءات الجنائية ص 25].
وخلاصة ما سبق هو ما ذكرته محكمة النقض بقولها بعد إيراد النصوص القانونية على أن اللغة العربية من المقومات الجوهرية للدولة أن هذا :” يدل على أن المشرع عدَّ اللغة العربية من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التي ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها.
وحرص المشرع على تقنين هذا الحكم في مجال القضاء بإيجاد نص صريح جلي المعنى قاطع الدلالة في أن اللغة العربية هي المعتبرة أمام المحاكم يلتزم بها المتقاضي والقاضي على السواء فيما يتعلق بإجراءات التقاضي أو الإثبات أو إصدار الأحكام. وقد عالج هذا النص الحالة التي يتحدث فيها الخصوم أو الشهود بلغة أجنبية فأوجب ترجمة أقواله إلى اللغة العربية، وحكمه يجري كذلك على سائر المحررات المدونة بلغة أجنبية التي يتساند إليها الخصوم فيتعين لقبول هذه المحررات أن تكون مصحوبه بترجمة عربية لها لذات العله، وتحقيقا للغاية التي استهدفها المشرع من الالتزام باستخدام اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للدولة وإحدى الركائز لإعمال سيادتها وبسط سلطانها على أراضيها مما يحتم على الجميع عدم التفريط فيها أو الانتقاص من شأنها على أية صورة كانت.
والقاعدة التي قننتها المادة 19 من قانون السلطة القضائية بهذه المثابة تعد من أصول نظام القضاء المتعلقة بالنظام العام. فيترتب على مخالفتها البطلان المطلق، ومن ثم يجوز للخصوم التمسك بهذا البطلان كما للمحكمة إثارته من تلقاء نفسها في أية حالة كانت عليها الدعوى. [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ].