التكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة القانونين (3) 

بقلم:محمد عبد الكريم الحسيني

(المهارات اللغوية اللازمة للمحامين في أعمالهم الكتابية)

 

على المستوى الكتابي هناك عدة مهارات لغوية لازمة لابد أن يتحصل المحامي على قدر ما يستطيع منها معرفيا ومهاريا؛ ليتمكن من توظيفها  في أعماله القانونية الكتابية  في دفاعاته ودفوعه المسطورة وفي مذكراته وعرائضه وسائر مكتوباته القانونية بلغة سليمة قوامها الدقة الوضوح وملؤها السلاسة والبلاغة؛ لِتُحدثَ أثرها في تكْشيف أحكام القانون وفي بسْطِه وتطبيقه، وفي نُصرةِ العدالة وتحقيق الردعين العام والخاص .

وأهم هذه المهارات هي :

 (1) مهارات فن الرسم ( الإملاء والترقيم ) حيث كتابة ورسم الحروف والهمزات والتاءات والهاءات بدقة على نهج اللغة الصحيح ، وما يتعلق بذلك من علامات ترقيم تعبير عن الانفعالات الكتابية وتقرب المعنى المكتوب وتكشف مراداته وتوصل مبتغاه إلى قارئيه .فشتان ما بين الفاصلتين أو الشولتين [(،) وتلك (؛)]، إذ أولاهما فاصلة سرد والثانية فاصلة تعليل … وهكذا مواطن التنصيص والتقويس والتعجب والاستفهام …. ولا ينبغي للمحامي أن يكتب (القضاه )…بل صحيحها (القضاة) ، ولا أن يرسم يهذا الشكل (الدعوه أو الدعوة ولا الدعوا -أو الدعوي) بل الصحيح أن يرسمها هكذا: “الدَّعَوى” بالأف المقصورة لأنها أزيد من (3) حروف ومؤنثة، ولا يجمعها على دعوات بل الصحيح جمعها على ال(دَعاوَى ودَعاوِي ) بالألف المقصورة أو الياء فكلاهما صحيح مثل فتوى على ال(فتاوى وفتاوي).

(2) مهارات علوم الكلمة وهي مهارات (علم المعجم وعلم الصرف),

 أ-علم المعجم يمنح المحامي المعاني والدلالات المباشرة وغير المباشرة القريبة والبعيدة، ويمنحه المعاني المطابقة وغيرها من المعاني المقاربة (المتضمنة واللازمة ) بما يقتضيه دفاعه وبما يفرضه السياق، فلا يصح منه أن يكنب كلمة يخلط ما بين أصلها الثلاثي أو الرباعي، فلا يخلط ما بين الفعل قَسَطَ الثلاثي ومشتقاته وما بين الفعل أَقْسَطَ ومشتقاته ،

*أَقْسطَ في حكمه: أي عدَلَ، فهو مُقْسِطٌ.وفي التنزيل العزيز: “وأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ “[ الحجرات : 9]

وبين *قَسِط في حكمه ،أي: ظلم وجار ، والقِسْط: الجَوْر.والقُسُوط: الجَوْرُ والعُدُول عن الحق؛ وفي التنزيل العزيز: “وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)” [سورة الجن]، والقاسطون: هم الجائرون ،

ب- علم الصرف ،على المحامي أن يكون متمكنا مكينا من علم الصرف، فهو من أهم العلوم بالنسبة للقانونيين، وعندي أنه أهم من علم النحو على ما سيأتي ذكره لاحقا، فهو بسمح له بتوليد الكلمات واشتقاقها ووزنها وزنا لغويا صحيحا يناسب صيغتها ويحقق معناها في سياقها ، فلا يصحُّ له أن يضع اسم المفعول محل اسم الفاعل، ولا أن يأتي بصيغة اسم الزمان في محل اسم المكان، ولا أن يخلط ما بين اسم المرة و اسم الهيئة ـ ولا يليق به أن يجهل كيف يصوغ المصدر من فعله أو ينسب المعنى إلى لفظه …. ؟!

ولا يليق به أن يجهل قواعد النسب لينسب الأحداث إلى مُحدثيها، ولا أن يجهل صياغة المصدر من فعله إن كان قياسيا كما قالوا :” كل ما كان بوزن فاعَلَ يأتي مصدره بوزن الُمفاعَلة” مثل : خاصم مُخاصَمة ، وجادل : مُجادَلة . ونازع مُنازَعة لا نزوعا، ولا يقولُ راسِل من أَرَسلَ ، بل يقول “مُرسِل” ، فإنَّ راسِل بوزن فاعل من الفعل الثلاثي رَسَل –يَرسل، ولا استخدام له بهذا المعنى ، إنما يستخدم اسم الفاعل من الفعل الرباعي : أَرْسَلَ ومضارعه “يُرسِل” ، تقلب ياء المضارعة إلى ميم مضمومة مع كسر ما قبل آخره.

ولا يقول قاسِط : اسم فاعل من الفعل قسِطَ الثلاثي ليدلَّ به على العدل، بل يقول “مُقسِط” اسم فاعل من الرباعي أَقْسَطَ بينما “قاسِط” بمعنى جائر أو ظالم من الفعل الثلاثي قَسَطَ يَقْسِطُ قُسوطاً وقسَطَ قُسوطاً: جارَ. ولذلك قالوا :” أمر اللهُ بالقِسْطِ، ونهى عن القَسْطِ “. قال القرطبي :” أقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ. وَقَسَطَ إِذَا جَارَ وَظَلَمَ صَاحِبَهُ “[ تفسير القرطبي (5/ 12)]

 (3) وكذلك عليه أن يحصل ما استطاع من معارف ” علم النحو” ومهاراته ، وأن يراعي قواعده في الكتابة، فبه يضبط سياق جملته ، وبه يبنى قوالبه اللَّفظية في سياقاتها الصحيحة؛ ليعبر بها عن مضمون دفاعه، فلا يليق به ولا يصحُّ منه أن يكنب ، “إنَّ المحققون” ، بل الصحيح “إن المحققين” مراعاة لحكم إنَّ الناسخة ، فهي : حرف توكيد ونصب تؤكد معنى الجملة وتنصب المبتدأ اسما لها ، ولا يكتب أنْ يختصمون بل صحيحها أن يختصموا ، يحذف النون مراعاة لـــ”أنْ” الناصبة ، ولا يقول :”أحضَروا المتهم ليحققون معه، ثم إنه لدواعٍ أمنية لم يحققون معه” بل الصحيح ” ليحققوا معه ، ولم يحققوا معه فـ(لام) النصب ” لِـ” تنصب الفعل بحذف النون إن كان من الأفعال الخمسة و”لم” النافية تجزمه بحذف النون كذلك … .

(4) وعليه أن يراعي مهارات علوم البلاغة؛فيحسن توظيفها في كتاباته ليراعي موافقة الكلام لمقتضى الحال ، وليكسب كلامه مسحة من الأدب والتصوير والبيان ، وليحسن التعبير عن المعنى الواحد بطرائق مختلفة ، وعليه أن ينتقي من الكلمات أرشقها وأخفها وأوفاها بالمعنى الذي يكتب عنه ، وليحسِّن من صياغته وليعنى بالمحسنات البديعية بلا تكلف …

وحبذا أن يؤكد في موطن التوكيد ويشك في موطن التشكيك ، فيقول عندما يؤكد “إنَّ” أو ” أنَّ “، أو لام التوكيد المفتوحة ، أو بؤكد بـ(لقد) وبعدها الفعل الماضي فيقول ……….. إِنَّ عدالةَ المحكمةِ لَناظرةٌ ولمبصرةٌ ضعفَ أدلةِ الاتهامِ وتناقُضِها ، فهذا أفضل من :”عدالة المحكمة ناظرة ومبصرة ضعف أدلة الاتهام وتناقضها “.

فهذا أوفى وأبلغ له عند جهات التقاضي ومؤسسات القضاء، فبهذا يبلغ الأثر ويحدث التأثير في نفوسه وعقولهم ومن ثم يميلون بعقولهم إلى دفاعه، ويحكمون له بما صحَّ من لغته وبما وافق صحيح القانون ….

ومردود اللغة على المحامي أنها :

1- تبين عن أصالته وتكشف عن شخصيته القانونية وعن جدارته ومدى إلمامه بمعارفه وإحاطنه بأدواته فينال التقدير لدي موكليه والاحترام لدى سامعيه وقارئيه .

2- توصل المعنى الذي يريده بالقصد الذي أراده ، فيحدث الغاية التي رسمها وتغيَّاها، وهي التعبير عن دفوعه والتأثير في القاضي وصولا إلى تغيير قناعاته بما في صالح موكله.

3- إظهار الحق ونصر العدالة وحماية الحقوق وهي غاية القانونيين في ممارستهم لأعمالهم سواء كانوا قضاة أو مشرعيين أو محامين …أو غيرهم

ومحصلة ما سبق أن ” معارف ومهارات اللغة العربية بالنسبة للمحامي تمثل أداته الرئيسة في التعبير والتأثير وفي الممارسة والتطبيق لمهام عمله ، كما أنها وسيلته لتحقيق رسالته في كشف الحق والدفاع عنه ونصرة العدالة وتعزيز سلطانها في دولة القانون “.

 

زر الذهاب إلى الأعلى