التكبيرة الصادقة
من تراب الطريق (910)
التكبيرة الصادقة
نشر بجريدة المال الاثنين 10/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
تنقسم حياة الإنسان إلى أطوار أو أقسام وأجزاء، ولا يعني ذلك أن هذه الأقسام تتوزع بين جاد وغير جاد، أو يمكن أن يكون جادًّا أو غير جاد.
ذلك أن حياة الإنسان بطبيعتها كلٌّ لا يتجزأ، ولا يغير من ذلك أن يبدو أحيانًا لوعينا هذا الجزء أو ذاك من زاوية الجد، أو من زاوية اللعب والهزل والمرح والضحك، فلا الجد حالة دائمة، ولا الاسترواح حالة دائمة، ولو كانت الحياة كلها جادة صارمة لاختنق الإنسان.
ولكننا نشهد في الحضارة الحالية أقسامًا منفصلة أو تكاد، وتجزئتها أجزاءً منفصلة في إطار تقسيم العمل أو التخصص.. وأيضًا بالتبعية للمستوى الاجتماعي.. ونشهد شيئًا من ذلك في انفصال الحياة العامة عن الحياة الخاصة، أو انفصال القانون عن الأخلاق، أو الدين عن الدنيا.. فإذا اخترنا تقسيم العمل مثالاً، للاحظنا أنه يحصر أحيانًا نشاط الآدمي في تركيب مسمار أو صامولة، أو ملء استمارة، أو تغليف سلعة.. إلخ، وهذا التقسيم يفصل العامل عن باقي العملية وعلومها وقواعدها ومهاراتها الأخرى، ونرى ذلك في التخصص ومجالات المتخصصين التي تحصر كلا منهم في تخصصه فلا يتناول سواه.
لذلك لم يعد غريبًا أن ترى الطبيب أو المهندس أو الاقتصادي أو الفني، عاديًّا في سلوكه وتفكيره، ملتزمًا النمط الذي تلقاه في القرية أو الحي الذي نشأ فيه، ملتزمًا بذات تقاليدها وأنماط وأساليب السلوك فيها، وشبيه بذلك أثر المستوى الاجتماعي في نوعية الاقتناء أو عقد الصلات أو التزام الزي والمظهر.
أما انفصال الحياة العامة عن الخاصة، فإنه يعطى تبريرًا مسلّمًا به للإفلات من رقابة الرأي العام، أو تجنب تتبع المخازى.. وزاد في البلاء انفصال القانون عن الأخلاق بقالة إن ذلك من معالم الحرية الشخصية، ومن ثم لم تعد للأخلاق الهيبة التي كانت لها ولم يملأ القانون الفراغ الناجم عن تواريها.
حياة الإنسان بطبعها كلٌّ لا يقبل التجزئة، وحالة التجزئة الداخلية أو الانقسام الداخلي التي اعتادها الناس من قرون -عوّقت فيما يرى محمد عبد الله محمد- نمو الثقة والصدق.. لأن الحياة المفتتة صارت أشلاءً متصادمة يكذب بعضُها بعضًا، ويشهد بعضها ضد بعض، ويندر فيها وجود النماذج المخلصة الخالصة التي يوافق باطنها ظاهرها ويتوحد معدنها وجوهرها في كل مساعيها.
ومع نضوب نمو الثقة، فإن الناس قد اعتادوا الاسترابة في دوافع وبواعث المواقف الأخلاقية والدينية.. ويحملون معظمها على الرياء والتظاهر والنفاق.. وانتشر مع ذلك عدم المبالاة بالمبادئ والأصول، وتعطل معظم عمل الدين والأخلاق.
واعتياد هذا البلاء أنسى الناس أنه ضد طبيعة الحياة التي تحافظ على وحدتها وعدم تفتتها.. وأنساهم أن الحياة تنمو نموا مشوها عليلاً إذا وسع عليها في ناحية أو نواح منها فقط، على خلاف ما عداها.. فالأجهزة التي تصل حياتنا من طريقها بالعالم الخارجي، تشبه في عملهـا عمـل الأوانـي المستطرقة.. ما يدخل إليها من شوائب يتسرب حتمًا إلى الكل.
واعتياد النظرة الجزئية وإيثارها باعتبارها تتفق مع طريقة التفتيت التي درجنا عليها في تحليل المشكلات، أدى ويؤدى إلى انعكاس هذا التفتيت على المحيط المادي الخارجي للحياة الإنسانية، في القرية والمدينة بل في المسكن.. وهذه النظرة الجزئية للحياة تبدو على أقسى صورها في مغالاة الحضارة الحالية ومبالغتها في التعلق بالمهارة وإعـلاء شأنها، وانتشار عبادة المهارة قد أفقد الناس الإحساس بأهمية الإنسان كإنسان.
هذه العبادة للمهارة، ذات أثر ملحوظ في «عبادة النفس»، ينجر الإنسان إلى ذلك حينما يتضخم إحساسه بتفوقه أو تفوق طائفته أو نوعه، وحين يرى الإنسان أنه سيد الكون، تتسلل إليه «عبادة النوع» وهي تسحـب -حتـى باللا وعي- من صفاء عبادة الحق تبارك وتعالى.
والآدمي منذ يولد، إلى أن يموت، لا يكف عن استعظام كائنات أو أشخاص أو أشياء، ويتراكم هذا الاستعظام في أحكام تتراكم لديه بقاياها وآثارها، وتنضح في عاداته.. وهذا الاستعظام عملية شعورية يشعر الآدمي إزاءها بالضآلة أو الضعف، وأحيانا بالتفاهة وقلّة الشأن.. وهذا «الاستعظام» يغطي -من ناحية عكسية- على الشعور بجدية الحياة الإنسانية.. بينما لا تكف عملية الاستعظام عن إنتاج مخاوف وحدود وقيود وسدود وأطياف تتسلل مع طول الاعتياد إلى داخلنا، فتستولى على أرواحنا وتصيبها بالجدب والضمور.
ولكن المسلم السوي معه: «الله أكبر».. وهذه التكبيرة الصادقة تحفظ المسلم وروحه وعقله من أشباح ومردة الاستعظام الباطلة.. فالله سبحانه وتعالى أكبر من كل ما قد يستعظمه الآدمي.. فالله أكبر من الناس كافة، ومن الخلق أجمعين، وأكبر من الرؤساء والحكام والزعماء والسادة.. والله أكبر من كل جمع وعدد، ومن كل ما صنع الإنسان وبنى وأنشأ وركب وحرك وغير وبدَّل وادخر وكدّس.. والله أكبر من كل ما يخيف النفس أو يؤلمها أو يحزنها أو يسرها أو يفرحها.. والإنسان حين يملأ قلبه من الله أكبر، يصغر أمامه كل ما سواه، ويتجه متحررًا إلى الحق المطلق وتحلق روحه في عنـان السماء.