التعليق على حكم محكمة النقض الصادر في الطعنين رقمي (٥٥۱۱، 5895 لسنة ۹۱ ق – بجلسة ۲۳ / ۲ / ۲۰۲٥- مدني)
بقلم الدكتور/ محمد طرفاوي محمد المحامى
ظهرت فكرة حجية الأحكام القضائية لترسيخ مبدأ حيوي وهو احترام أحكام القضاء، ومع خطورة الفكرة على حقوق المتقاضين حاول المشرع المصري أن يوازن بين المصالح المتعارضة – مصلحة المتقاضين ومصلحة عامة وهى احترام أحكام القضاء- فقام بوضع الأسس والقواعد والشروط الخاصة بالحجية ومنها اتحاد السبب والخصوم والموضوع.
نتيجة لما سبق، وضع المشرع النص التشريعي الحاكم لمسألة الحجية بقانون الإثبات فأورد في المادة (101) ما نصه أن” الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق فلا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجية ولكن لا تكون لتلك الأحكام هذه الحجية إلا في نزاع قام بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم وتتعلق بذات الحق محلاً وسبباً وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها.”
وضع المشرع نصب عينيه وهو يحاول معالجة فكرة الحجية تشريعياً أن يضع معايير واضحة ومحددة لهذه الفكرة، ونظراً لخطورة فكرة الحجية قرر المشرع سموها على قواعد النظام العام، فكان احترام الأحكام وحجيتها أكثر قيمة من مبادئ النظام العام، فقضت محكمة النقض بأن” المقرر فى قضاء محكمة النقض أن احترام حجية الأحكام تعلو على ما عداها من اعتبارات النظام العام، إذ إن المشرع اعتبر أن تناقض الأحكام هو الخطر الأكبر الذى يعصف بالعدالة ويمحق الثقة العامة فى القضاء” (الطعن رقم 5317 لسنة 91 ق – جلسة 28/12/2021 – تجاري).
وبالنظر للحكم الصادر من محكمة النقض في الطعنين رقمي 5511، 5895 لسنة 91 ق – بجلسة ۲۳ / ۲ / ۲۰۲٥ نجد أن الحكم قد تضمن مباديء هامة فيما يخص تقرير حجية الأمر المقضي، إذ جاء فيه ما نصه أن” المقرر -في قضاء محكمة النقض – أن النص في المادة 101 من قانون الإثبات على أن” الأحكام التي حازت قوة الامر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه من الحقوق ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجية وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها” يعد خروجاً على الأصل الذي يعطي لمحكمة الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع في الدعوى وتقدير أدلتها والموازنة بينها ثم الاخذ بما تقتنع به وإطراح ما عداه باسباب سائغة بما في ذلك الادلة التي سبق طرحها في دعوى سابقة لأن تقدير الادلة في ذاته لا يحوز حجية إلا أن النص ألزم المحكمة مهما كان اقتناعها بألا تقضي في دعوى على خلاف حكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم انفسهم وحاز قوة الأمر المقضي وذلك حماية للنظام القضائي ومنعاً لتضارب الاحكام وتجديد المنازعات وتأييدها حسبما أفصحت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني وليس لأن الحكم الحائز على قوة الأمر المقضي صحيح على سبيل الحتم وفي ذلك تقول المذكرة الإيضاحية إن القضاة تعوزهم العصمة شأنهم في هذه الناحية شان البشر كافة، بيد أن المشرع أطلق قرينة الصحة في حكم القاضي رعاية لحسن سير العدالة وضمان الاستقرار من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وهذان الفرضان مجتمعان يتعلقان دون شك بالنظام العام ثم إنها بُنيت على قرينة قاطعة لا يجوز نقض دلالتها بأي دليل عكسي ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً وكل ذلك لحماية النظام القضائي ومنع تضارب الاحكام وهي أمور واجبة ولو جانبت العدالة في نزاع بذاته، أما إذا فات هذا الغرض الأصلي بأن صدر حكمان متناقضان في نزاع بذاته وبين الخصوم أنفسهم وإزاء خلو التشريع والعرف من حكم منظم لتلك الحالة فإنه إعمالاً للفقرة الثانية من المادة الاولى من القانون المدني تعين اللجوء لمباديء الشريعة الإسلامية ومؤداها أنه إذا سقط الأصل يصار إلى البدل ولا حجية مع تناقض، فإذا تناقض متساويان تساقطا وتماحيا ووجب الرجوع للأصل باسترداد محكمة الموضوع لسلطتها في الفصل في النزاع على هدي من الأدلة المطروحة تحقيقاً للعدالة دون تقيد بأي من هذين الحكمين المتناقضين، وعلى ذلك فلا وجه للرأي الذي يعتد بالحكم الأسبق بمقولة إنه الأولى لانه لم يخالف غيره ولا للحكم اللاحق لتضمنه نزول المحكوم له عن حقه السابق، بل الاولى هو إطراحهما والعودة للأصل بأن يتحرى القاضي وجه الحق في الدعوى على ضوء الادلة المطروحة.
المبادي المستفادة من الحكم:
- الحجية تعد خروجاً على الأصل الذي يعطي لمحكمة الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع في الدعوى وتقدير أدلتها والموازنة بينها.
- الحجية ملزمة للمحكمة ولا يجوز لها أن تقضي بخلاف حكم سابق حتى ولو اختلفت عقيدتها عن ذلك الحكم.
- أطلق المشرع قرينة الصحة في حكم القاضي رعاية لحسن سير العدالة وضمان الاستقرار من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وهذان الفرضان مجتمعان يتعلقان دون شك بالنظام العام ثم إنها بُنيت على قرينة قاطعة لا يجوز نقض دلالتها بأي دليل عكسي ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً وكل ذلك لحماية النظام القضائي ومنع تضارب الاحكام وهي أمور واجبة ولو جانبت العدالة في نزاع بذاته.
- حال فقدان الغاية التشريعية من النص وظهور حكمين متعارضين، يجب العودة إلى الأصل وهي استرداد المحكمة لسلطتها من جديد للفصل في موضوع الدعوى.
- لم يأت المشرع بنص بنص يحدد الحكم صاحب الأولوية في حالة تناقض الأحكام؛ ولم يحدد العرف طريقة للتعامل مع هذا الموقف.
- عملاً بأحكام القانون المدني يتم اللجوء للمصدر الثالث الوارد بالمادة رقم (1) وهو اللجوء للشريعة الإسلامية، التي تقرر ألا حجية في تعارض.
- حال وجود حكمين نهائيين متعارضين يتماحيا ولا ينتجاً أثراً، ويتعين على المحكمة إهدار كل منهما.
- لا مفاضلة بين الحكمين لا الاول ولا الثاني فكلاهما لا وجود لحجيتهما نظراً لكونهما أحكاماً نهائية، وبذلك فقد فات الغرض التشريعي من تقرير الحجية في احترام سلطة القضاء فحال الأخذ بأحدهما وإهدار الآخر لن تكون القاعدة مستقيمة، وبذلك يكون الأفضل تنحية الحكمين جانباً والعودة إلى الأصل وهو استرداد المحكمة سلطتها.
التعقيب:
وجاء اتجاه محكمة النقض محل نظر للأسباب التالية:
السبب الاول:
اتجهت محكمة النقض إلى تماحي أثر الحكمين إذ تناقضا تناقضاً يصعب معه تفضيل أو تنفيذ أحدهما دون الأخر، وقد فصلا في ذات الحق الموضوعي، وهنا لنا وفقة؛ كيف يفصل الحكم الثاني في نزاع ثار وانتهى بين أطرافه في النزاع الأول فهذا في حد ذاته مخالفة لقاعدة الحجية، وفي ذلك ذكر العلامة السنهوري أن” حجية الامر المقضي معناه أن للحكم حجية فيما بين الخصوم وبالنسبة إلى ذات الحق محلاً وسبباً، فيكون الحكم حجو في هذه الحدود، حجة لا تقبل الدحض ولا تتزحزح إلا بطريق من طرق الطعن في الأحكام وتثبت الحجية لكل حكم قطعي أي لكل حكم موضوعي يفصل في خصومة. (د/ عبدالرزاق أحمد السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني – تنقيح المستشار/ أحمد مدحت المراغي – الجزء الثاني – طبعة منشأة المعارف بالاسكندرية – سنة 2004 – صفحة 584)
ومفاد ذلك أن الحكم الاول يحوز حجية بين أطرافه فلا يجوز نقض هذه الحجية أو تجاهللها، ولا ينال مما تقدم ما ورد بالحكم من أن تناقض الحكمين بنفي الافضلية إذ انتفي القصد وهو احترام حجية الاحكام لنعود إلى الأصل وهو استرداد القاضي لسلطته، ذلك أن هذا القول في ذاته ينهى مبدأ احترام حجية الأحكام، فحال تماحي الحكمين فإن الحكم الاول – وهو الاولى بالاتباع حتى لو كان خاطئاً – يكون قد انتهى أثره بشكل يهدر الأصل وهو مبدأ الحجية.
لا جدال في أن الأصل في سلطة القاضي في الفصل في موضوع الدعوى ولكن يجب لتوافر ذلك أن يتصل القاضي اتصالاً صحيحاً بالدعوى وأن تكون له سلطة ولائية في البت في موضوعها؛ ولما كان الحكم الأول قد انتهى في خصومة صحيحة منعقدة تامة إلى الفصل في موضوع الحق، فلا مجال لإعادة اتصال المحكمة بالدعوى ويكون القاضي غير مختص ولائياً للبت في الخصومة إذ انعدم محلها، وبذلك يكون الحكم الثاني منعدماً كونه صدر من قاضي غير مختص ولائياً بإصداره.
وفي ذلك قضت محكمة النقض في أحد أحكامها بأنه” يترتب على صدور حكم سابق نهائياً وحائزاً على قوة الأمر المقضي إنكار لسلطة أية محكمة بعد ذلك في إعادة نظر النزاع لتعلق ذلك بالنظام العام فإذا ما تجاوزت المحكمة حدود سلطتها وتصدت لنظر النزاع وقضت فيه على خلاف الحكم السابق فإن حكمها يكون صادراً في خصومة قد انتهى محلها وسببها مفتقداً بذلك لأحد أركانه الأساسية التي قوامها ثدوره من قاضي له ولاية الفصل في خصومة مستكملة المقومات أطرافاً ومحلاً وسبباً وفقاً للقانون بما يجرده من مقومات صحته ويفقده كيانه وصفته كحكم ويطيح بما له من حصانة وينحدر به إلى درجة الإنعدام، وإذا ترتب على ذلك تناقض حكمين وعرض النزاع لمرة ثالثة على قاض آخر فلا يجوز له اتقاءً لتأبيد الخصومات أن يتصدي للفصل في النزاع مجدداً بل عليه أن ينفذ الحكم الأول وحده ويلتزم بحجيته ولا يعتد بالتالي.” (الطعن رقم 9106 لسنة 81 ق – جلسة 7/4/2022)
وحيث إن المبادئ المستقرة هي إعمال حجية الحكم الاول في أثر الحجية السلبي وهو امتناع نظر النزاع من جديد طالما اتحد أطرافه ومحله وسببه، فإن حجية الحكم تكون الأولى بالاتباع وليس كما ورد بالحكم محل النظر.
السبب الثاني
الأثر السلبي للحجية هو منع إعادة نظر النزاع بين الخصوم أنفسهم، وذكر الاستاذ الدكتور/ أحمد أبوالوفا أن” أثر حيازة الحكم النهائي قوة الأمر المقضي هو منع الخصوم أنفسهم من المناقشة في المسألة التي فصل فيها ولو بأدلة قانونية أو واقعية لم يسبق إثارتها أو أثيرت ولم يبحثها الحكم الصادر فيها.” يؤكد ذلك المنع أن مبدأ الحجية ينتج أثراً سلبياً على النزاع وهو حائل دون اتصال القاضي بالموضوع مرة أخري إذ عليه أن يلتزم بحجية الحكم الاول وعليه فقد انقطع السبيل إلى الوصول للمحكمة بشكل صحيح مما يعدم فكرة الدعوى الثانية منذ نشأتها فلا محل للمقارنة بين الحكمين الاول والثاني فالأول صدر في خصومة انعقدت صحيحة وصدر من قاضي مختص ولائياً بنظر الدعوى، وبذلك لم يعد هناك محل لإعادة الطرح فقد انتهى المحل والسبب بل وسلطة المحكمة في نظر الموضوع بموجب الحكم الاول فلا يكون للحكم الثاني أثر بل يصل فعلاً لحد الانعدام كونه صدر في خصومة غير منعقدة ومن قاضي لا يملك السلطة الولائية لاصداره.
السبب الثالث
الحجية لها قوة خاصة وقد حاول المشرع صيانتها بأكثر من طريقة، وبالنظر للغاية التشريعية من قواعد الحجية نجد أن المشرع قد أحاطها باحكام حماية متعددة، فنجد ما ورد بنص المادة (249) من قانون المرافعات أن” للخصوم أن يطعنوا أمام محكمة النقض في أي حكم انتهائي – أيا كانت المحكمة التي أصدرته – فصل في نزاع خلافاً لحكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي” وهنا أجاز المشرع الطعن بطريق النقض على الحكم الصادر من المحاكم الابتدائية بل والجزئية – حال كونه انتهائياً – وذلك حال مخالفته لقواعد الحجية، إن دل ذلك على شيء يدل على قوة الحجية وأهميتها لدى المشرع، فكيف للحكم أن يناقض ذلك ويمحى أثر حكم قضائي نهائي وبات لمجرد الخطأ المرتكب من المحكمة مصدرة الحكم الثاني ويمحو حجية يقرها القانون معللاً ذلك بعدم وجود نص واستند لقواعد الشريعة الاسلامية حيث لا نص ولا عرف، وهو استنباط قد جانبه فيه الصواب، فالنص يحكم الحجية وواضح الدلالة والفكرة في الحجية وفلسفة المشرع في أحكامها واضحة بقانون الإثبات وقانون المرافعات فيما ورد بالمواد (101) إثبات و (116، 249) مرافعات، وعلى ذلك لا نرى أن الحكم قد وُفِقَ في هذا الشأن.
يتساند ذلك مع ما قررته محكمة النقض ذاتها من قاعدة سمو قواعد الحجية على النظام العام، فقضت محكمة النقض بأن” قوة الأمر المقضي التي اكتسبها الحكم تعلو على اعتبارات النظام العام” (الطعن رقم 933 لسنة 57 ق – جلسة 16/4/1992 – مدني).
وبالأخير يجب احترام قواعد الحجية وعدم التفريط فيها، ذلك أن الحجية قوامها قرينة الصحة في الأحكام القضائية، وهي ليست قرينة حتمية لذلك حرص المشرع على وضع شروطها وضوابطها بدقة، وكذلك جاءت قوتها من مبدأ عام وهو حسن سير العدالة ومنع تأبيد النزاعات وحماية النظام القضائي ألا يضطرب، ونتيجة لما سبق يجب مراعاة قواعد الحجية طبقاً لضوابطها وشروطها المقررة، مع مراعاة اختلاف الحالة الواقعية لكل نزاع، فقد يكون هناك حكمين متعارضين في وجهة نظر الخصوم، ولكنهما في الحقيقة لا تعارض بينهما وهو أمر تركه المشرع لسلطة قاضي الموضوع، ولا ضير، فهو في حدود بحث الحجية هل تتوافر بشروطها وضوابطها أم لا، وعلى ذلك نجد أن اتجاه محكمة النقض فيما قضت به بالطعنين رقمي ٥٥۱۱، 5895 لسنة ۹۱ ق – بجلسة ۲۳ / ۲ / ۲۰۲٥- مدني قد جانبه الصواب.