التصدي بين الجنايات والنقض
بقلم الأستاذ: الدكتور أشرف نجيب الدريني
يثور التساؤل حول الحكمة التشريعية من عدم منح دوائر الجنايات بدرجة “الاستئناف” سلطة التصدي، كما هو الحال في محكمة الجنايات “الابتدائية”. ولعل الإجابة تكمن في أن المشرّع حينما حجب عن المحكمة المستأنفة تلك السلطة، كان يستهدف الحفاظ على مبدأ التقاضي على درجتين، باعتباره أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها دستوريًا، ومبدأً أصيلًا في الأنظمة القانونية المقارنة. إذ لو مُنحت المحكمة المستأنفة سلطة التصدي، لتحوّلت عمليًا إلى محكمة “موضوع نهائية”، مما يُفرغ الاستئناف من مضمونه، ويهدر حق المتهم في عرض دعواه على جهتين قضائيتين مختلفتين، وهو ما يتنافى مع أبسط مقتضيات العدالة الجنائية.
أما عن محكمة النقض، فقد كانت، وفقًا للوضع القانوني السابق على تعديل القانون رقم 11 لسنة 2017، حيث لم يكن هناك استئناف لأحكام محكمة الجنايات، وكانت هذه الأخيرة تفصل في الدعوى الجنائية بدرجة واحدة، مع إتاحة الطعن بالنقض فقط. وكان ذلك الوضع محل انتقاد دائم من جانب الفقهاء، لعدم توافقه مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة، التي تشترط حق المتهم في درجتين من التقاضي الموضوعي.
في هذا السياق، كانت محكمة النقض تتدخل في موضوع الدعوى فقط عند الطعن للمرة الثانية، أي إذا كانت قد نقضت الحكم الأول وأُعيدت الدعوى إلى محكمة الجنايات التي أصدرت حكمًا جديدًا، ثم طُعن عليه مرة أخرى. في هذه الحالة، ووفقًا لنص المادة 39 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض – قبل التعديل – كانت المحكمة تتصدى للفصل في الموضوع بنفسها. وقد جاء هذا الاستثناء في سياق محاولة التوازن بين إنهاء النزاع وعدم الدوران في حلقة مفرغة من الإعادة، خاصة في ظل وجود درجة تقاضٍ واحدة موضوعيًا آنذاك.
غير أن هذا التوجه تغيّر جذريًا بعد صدور القانون رقم 1 لسنة 2024، الذي استحدث نظام الاستئناف في الجنايات، وأتاح للمحكوم عليهم الطعن على الأحكام أمام محكمة جنايات استئنافية، مما أرسى عمليًا نظامًا جديدًا للتقاضي على درجتين فعليتين في الموضوع. وبالتالي، فإن استمرار منح محكمة النقض سلطة التصدي- من أول مرة- بعد هذا التعديل يُثير إشكالية دستورية ومنهجية عميقة، إذ إن التصدي في هذا المقام يُعد من قبيل الخروج على الدور الأصيل لمحكمة النقض كمحكمة قانون – تُحاكم الحُكم- تراقب مدى الالتزام بقواعده، لا أن تُعيد نظر وقائع الدعوى وتفصل في موضوعها. كما أن الفقه المقارن يكشف عن التزام واضح في النُظم الفرنسية والبريطانية والإماراتية بضرورة إعادة الدعوى إلى محكمة إحالة حال قبول الطعن، دون أن تنفرد محكمة النقض بالفصل الموضوعي، مما يعكس احترامًا واضحًا للتدرج القضائي والتقاضي المتوازن.
ففي فرنسا، لا تتدخل محكمة النقض في موضوع الدعوى إطلاقًا، بل تكتفي بنقض الحكم عند وجود خطأ قانوني وتُعيد القضية إلى محكمة أخرى من ذات الدرجة للفصل فيها من جديد. وفي المملكة المتحدة، لا تمتلك المحكمة العليا أو محكمة الاستئناف الجنائية سلطة الفصل في الموضوع، بل يقتصر دورها على مراجعة قانونية الحكم أو مدى عدالة المحاكمة. وفي الإمارات، فإن المحكمة الاتحادية العليا تلتزم بالرقابة القانونية فقط على الأحكام، ولا تملك هي الأخرى سلطة التصدي المباشر.
ومن ثم فإن الدعوة إلى إعادة محكمة النقض إلى وظيفتها الأصلية كمحكمة قانون خالصة باتت ضرورية وملحّة، خاصة بعد اكتمال البناء التشريعي للتقاضي على درجتين فعليتين في قضايا الجنايات. فاستمرار التصدي من قبلها لا يُعد فقط خروجًا على المبادئ الدستورية المستقرة، بل يُمثل افتئاتًا على حق الدفاع، وتحويلًا غير مبررٍ لطبيعة المحكمة. فالاختزال في مراحل التقاضي بدعوى السرعة الإجرائية لا يُحقق إنصافًا حقيقيًّا، بل قد يؤدي إلى تقوّيض الثقة في النظام القضائي برمّته. إن العدالة البطيئة قد تُنهك صاحبها، ولكن العدالة المبتورة تُهدر حقوقه بالكامل. والله من وراء القصد.