التركية العثمانية وأنهار الدماء (8)

بقلم الأستاذ: رجائي عطية نقيب المحامين

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 19/10/2020

ومع استمرار الثورة ، لم يجد السلطان العثماني بدًّا من الاستجابة لمطالب الشعب والعلماء ، فأرسل فى 9 يوليو 1805 رسولاً إلى القاهرة يحمل فرمانًا بعزل خورشيد باشا وأمره بالتسليم ، ويقر ما رآه أهل مصر من خلعه واختيار من يشاءون واليًا عليهم من قبل السلطان . وسلم المندوب إلى محمد على باشا « والى جدة سابقًا » بتثبيته واليًا على مصر « حيث رضى بذلك العلماء والرعية وأن خورشيد باشا معزول عن ولاية مصر » .. وكان يومًا مشهودًا خرجت فيه الجماهير محتشدة عن بكرة أبيها، احتفالاً بانتصار الشعب، وفرض إرادته .

وقد كان من مثالب محمد على ، زيادته للضرائب على كاهل الناس تلبية لمطالب السلطان العثماني في الباب العالي ، ورضوخًا لأطماع دولة الخلافة التركية العثمانية بمنطق« الجباية » ، فبدأت مراجعة عمر مكرم لسياسة محمد على الذى جعل يستجيب لمطالب الباب العالي تحقيقًا لمطامعه ، وقد أدت معارضة عمر مكرم إلى قيام محمد على بنفيه مرتين ، الأولى إلى دمياط لأكثر من أربع سنوات تحت المراقبة والحراسة ، والثانية إلى طنطا في أبريل 1822 م / 1238 هـ ، بعد أن خشى محمد على من تزايد شعبيته ، إلاَّ أن عمر مكرم لم يستغل هذه الشعبية للانتفاض ضد محمد على باشا ، مخافة الفتنة التي ذاقت مصر شرورها وظل طائعًا شامخًا فى منفاه إلى أن توفى أواخر سنة 1822 م / 1238 هـ .

واليوم إذا أردت أن تزور قبره ، فسوف تجده مجهولاً بين قرافة المجاورين ، لا يحمل اسمًا ولا تاريخًا ، بيد أن صاحبه عاش ويعيش فى ضمائر المصريين حتى أبد الآبدين .

أما دولة الخلافة التركية العثمانية العلية ، فقد كانت مشغولة باستغلال واحتلاب خيرات مصر ، وقوة رجالها ، فى خدمة أغراضها !!، وعودة إلى أخبار دولة القتل وإراقة الدماء ، الخلافة التركية العثمانية العلية ، فإن ولاية السلطان « سليم الثالث » انتهت بثورة بين الجنود غير المنتظمة ، حاول تلافيها بإلغاء النظام الذى وضعه وتسبب فى إشعالها ، فقام بصرف العسكر النظامية ، بيد أن الجنود الثائرين لم يطمئنوا إلى صدق نواياه ، فهذه عادة هؤلاء السلاطين ، وخشوا أن يعود لتنفيذ مشروعه، فقرروا عزله من السلطنة ، حيث نودى فى 28 يونيو 1807 م بفصل السلطان سليم الثالث ، وعزله من الولاية ، ومات كمدًا بعد نحو عام .

أما بديله السلطان الغازي ( كلهم غزاة ) « مصطفى خان الرابع » ، فقد استهل ولايته أسوأ استهلال ، فقد وصلت أخبار الثورة التى أطاحت بسلفه ، إلى الجيوش التركية العثمانية المنشغلة آنذاك بمحاربة الروس عند نهر « الطونة » (الدانوب) ، ولما رأى الانكشارية أن قائدهم العام الصدر الأعظم « حلمى إبراهيم باشا » ـ لا يجارى سرورهم بالثورة وما أدت إليه ، ولا يستحسنها ، قتلوه وأقاموا مكانه « جلبى مصطفى باشا » ، فوقع الفشل فى الجيوش .

وما لبث الخلاف أن شب بعد قليل بين رؤساء الثورة ، واتفق « قباقبجى أوغلى » مع المفتى على عزل القائمقام مصطفى باشا ، وعزلوه وأبعدوه خارج البلاد ، وأقاموا مكانه من يدعى « طاهر باشا » وما لبث أن عُزِل فسافر إلى « روستجق » والتجأ إلى حاكمها

« مصطفى باشا البيرقدار » ، وكان من حزب السلطان سليم الثالث المعزول ، ويود إرجاعه لمنصة الحكم ، فكاشف بذلك « جلبى مصطفى باشا » الصدر الأعظم الجديد ، وأقنعه وباقى الوزراء بوجوب عقاب المفتى وقباقبجى أوغلى ـ على تهييجهما الجنود غير المنتظمـة وعزل السلطان سليم والاستئثار بالسلطة ، فأصدر الصدر الأعظم حكمًا بإعدام « قباقبجى مصطفى » ، وانتدب لذلك « حاجى على » الذى خرج فى نحو مائة من الفرسان ، حيث تمكنوا من القبض عليه وقتله ، هذا القتل الذى ملأ صفحات تلك الخلافة التركية العثمانية العلية !

ويروى أن السلطان « مصطفى خان الرابع » خشى على نفسه عندما علم بهذه الأنباء ، فأمر بعزل المفتى وصرف جنود « قباقبجى مصطفى » التى عضدته على عزل السلطان

« سليم الثالث » ، وهنا أظهر « البيرقدار » الاكتفاء بذلك ، ولم يكشف عزمه على إعادة السلطان سليم الثالث إلى « عرش الخلافة العظمى » !

وأمعن البيرقدار فى خداعه ، فأظهر أنه عازم على العودة إلى « روستجق » ، ولكنه ألقى القبض على « جلبى مصطفى باشا » الصدر الأعظم فى 28 يونيو 1808م ، وتابع السير بجيوشه إلى السراى السلطانية طالبًا إعادة السلطان سليم الثالث إلى عرشه .

هنالك انتفض السلطان مصطفى خان الرابع ، فأمر بقتله ، وألقى جثته إلى الثائرين أملاً فى أن يكفوا عن الثورة ، ولكن رد الفعل جاء على عكس ما يتصور ، وهاجوا هياجًا شديدًا ونادوا على الفور بعزل السلطان ، وحجزوه بنفس السراى التى كان قد حجز فيها السلطان سليم ، ولم يكتفوا بعزله ، فقاموا بقتله!، ولا غرابة، فالقتل سنّة حاضرة على الدوام فى الدولة التركية العثمانية العلية !

أما السلطان التالى : الغازى « محمود خان الثانى »  فقد افتتح عمله بتقليد « مصطفى باشا البيرقدار » منصب الصدارة العظمى ، وأوكل إليه إعادة تنظيم الانكشارية وإجبارهم على اتباع نظامهم القديم المسنون من عهد السلطان « سليمان القانونى » ، فحقق بعض النجاح الجزئى معهم ، ولكن أفضى الأمر فى النهاية إلى التمرد والعصيان والدخول فى سلسلة من المعارك ، قتل فيها « مصطفى باشا البيرقدار » ، وانتهت المعارك فى قصة طويلة بمحاصرة الانكشارية فى الآستانة ، وضربهم بالمدافع ، فلما رأوا الهلاك أضرموا النار فى جوانب المدينة ، وكانت معظمها من الخشب سهل الاشتعال ، فاضطر السلطان للإذعان لطلبات الانكشارية حتى ينقذ المدينة من الدمار .

وفى عهد السلطان محمود الثانى بدأ ظهور الحركة الوهابية وتوابعها بالحجاز ، وشبت ثورة فى اليونان للمطالبة بالاستقلال ، وألمّت بالجيوش التركية العثمانية خسائر فادحة فى محاولاتها قمعها ، وبدأ النحر فيما تفرض عليه دولة الخلافة العلية سلطانها فى جزر البحر

الأبيض المتوسط ، وفى سواحل بلاد المورة وسواحل اليونان ، حتى لم يعد باقيًا للدولة العلية ـ آنذاك ـ من جميع سواحل اليونان إلاَّ مدينة « مينا مودون » ومدينة « كورون » ، وجعلت الدول الأوروبية تنحر فى جسد الدولة العلية بما تمده لليونانيين بالمال والرجال لمقاومة الجنود العثمانية ، وشكلت فى أوروبا عدة جمعيات لمد الثائرين بكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والعتاد ، وتطوع كثيرون من أعضائها فى عداد المحاربين للدولة العلية ، ومنهم كثيرون من مشاهير أوروبا وأمريكا ، كواشنطون الابن ـ ابن محرر أمريكا ، واللورد بيرون الشاعر الإنجليزى ، وغيرهما .

زر الذهاب إلى الأعلى