التركية العثمانية وأنهار الدماء (6)
التركية العثمانية وأنهار الدماء (6)
نشر بجريدة الأهرام الإثنين 5/10/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
في عهد السلطان العثماني الطفل « محمد خان الرابع » ــ الذي تولى وهو في السابعة من عمره ، سار « قره مصطفى باشا » سنة 1088هـ / 1677م إلى بلاد المجر لمحاربة النمسا ، بناء على طلب أحد أشراف المجر ، الذي أراد التخلص من الاستبداد الديني للإمبراطور « ليوبولد » الكاثوليكي الذي جعل يأمر بقتل كل من يلوح عليه أدنى ميل إلى مذهب البروتستانت
ولكن حملة « قرة مصطفى باشا » مندوب الخلافة التركية العثمانية العلية ، قد باءت بالخذلان ، وتورط في أمر عظيم ، بإقدامه على قتل كل من يتخلف من جيشه عن السير ، ولما وصلت هذه الأنباء إلى السلطان « محمد خان الرابع » ، وكان قد اشتد عوده واقترب من الأربعين من عمره ، أمر بقتل الصدر « قرة مصطفى باشا » ، وأرسل أحد رجال حاشيته للتنفيذ ، فقام بقتل الصدر الأعظم ، واحتز رأسه وأرسلها إلى القسطنطينية ، وعين السلطان مكانه « إبراهيم باشا » سنة 1683م ، وتلاه الصدر « سليمان باشا » .
ومن سوء طالع الصدر الجديد ، أنه أخفق في هجومه على التحالف المقدس في سهل «موهاكو » ، والذى سبق انتصار العثمانيين فيه ـ فى هذا السهل ـ على المجر قبل مائة وستين سنة ، ولكن الدائرة دارت هذه المرة على الجيوش العثمانية ، فانهزموا عن آخرهم ، فأشهرت الجيوش الباقية العصيان على « سليمان باشا » الذى فر إلى بلغراد ، فأرسل الانكشارية والسباه وفدًا إلى الآستانة يطلب من السلطان « محمد خان الرابع » أن يأمر بقتله ، وسرعان ما ضحى به وأمر بقتله تسكينًا للثورة ، ولكن الدائرة دارت على السلطان ، واتحد العلماء مع الوزير الثاني ( القائمقام) قره مصطفى على عزل السلطان خوفًا على المملكة ، وعزلوه في 8 نوفمبر 1687م ، وبقى في العزل إلى أن توفى بعد خمس سنوات ، ولتتابع من بعده سلسلة السلاطين الغزاة ، وإراقة الدماء ، وإزهاق الأرواح !
يروى لنا التاريخ أن السلطان آل من بعده إلى الغازي ـ فكلهم غزاة كمـا يقولـون :
« سليمان خان الثاني » ، وبدأ عهده بإغداق العطايا على الجنود ، ولم يعاقبهم على عصيانهم الذى كان من نتيجته عزل السلطان السابق ، وما لبث هذا السلطان أن توفى بعد ثلاث سنوات في يونية 1691م ، ولحق به السلطان « أحمد خان الثاني » ، الذى ما لبث بدوره أن توفى في فبراير 1695م ، بلا عمل ذي قيمة يمكن أن يذكر له ، وتلاه السلطان الغازي « مصطفى خان الثاني » ، وهو ابن السلطان محمد الرابع ، وتولى بوفاة « سليمان خان الثاني » (1106 هـ / 1695 م) ، وقيل إنـه كان شجاعًا ثابت الجأش ، وقد نجح في إغارة ثانية بجيوشه علـى بلاد المجر ، وفتح حصن « لبا » وهزم الجنرال « فتراني » في موقعة « لوجوس » ، وقتل من جنوده ستة آلاف ، وأخذه أسيرًا حيث قتله في سبتمبر 1695م ، ولكنه تعرض للعزل من السلطنة في أغسطس 1703 م ، لفشله في إبطال المفاسد ومعاقبة المرتشين ، وأقاموا مكانه السلطان الغازي « أحمد خان الثالث » ، أخو السلطان مصطفى خان الثاني ، وابن السلطان محمد الرابع ، ولدى تنصيبه وزع أموالاً طائلة على الانكشارية ، وسلم لهم في قتل المفتي « فيض الله أفندي » لمقاومته لأعمالهم ، ولكنه بعد تحسن الأحوال وعودة السكينة ، اقتص من الانكشارية بقتل عدد كبير منهم ، ثم عزل ( في سنة 1703م) عزل الصدر الأعظم « تشانجى أحمد باشا » الذى انتخبه الانكشارية وقت ثورتهم ، وعين بدله زوج أخته « رامادا حسن باشا » بيد أنه سرعان ما تمكن الانكشارية من عزله بعد عام ، ولتتغير الصدور تبعًا للأهواء والمآرب ، ولتبدأ الدولة في التراجع أمام مطامع بطرس الأكبر ملك الروسيا . وفى 13 أكتوبر 1727م ، انفرد
« طهما سب » بالملك بعد وفاة الشاه أشرف ، ولميل السلطان أحمد خان الثالث للصلح وعزوفه عن الحرب ، ثار الانكشارية سعيًا للنهب والسلب ، وطلب زعيمهم « بترونا خليل » من السلطان أحمد خان الثالث قتل الصدر الأعظم والمفتي وأميرال الأساطيل البحرية
« قبودان باشا » ، واتقاءً لهم وخوفًا من إيذائهم له ، سلم لهم السلطان بقتل الوزير والأميرال دون المفتى ، فقتلوهما وألقوا بجثتيهما فى البحر ، ثم لم يمنع صدوع السلطان لهم من إعلان العصيان عليه ، وأسقطوه ونادوا بابن أخيه السلطان الغازي محمود خان الأول خليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين ! ، إلاَّ أنه لم يكن له من ولاية الحكم سوى الاسم فقط ، بينما النفوذ والصولة « لبطرونا خليل » ، يولى من يشاء ويعزل من يشاء تبعًا للأهواء والأغراض ، حتى عيل صبر السلطان من استبداده ، وتجمع ضده رؤساء الانكشارية ، وغدروا به وقتلوه تخلصًا من شره ونفوذه .
ومن سوء حظ الدولة العثمانية ، أن يتوفى السلطان العادل « محمود خان الأول » فى 27 صفر 1168 هـ/ 13 ديسمبر 1754م ، مأسوفًا عليه لاتصافه بالعدل والحلم ، والتزامه بالمساواة بين جميع رعاياه .
من بعده بدأت ولاية السلطان الغازى « عثمان خان الثالث » ـ بتقلده السيف فى جامع الصحابى « أبى أيوب الأنصارى » طبقا للعادة القديمة ، ولكن الأعالى سرعان ما ثاروا ضده لسوء سياسته ، ولكنه علم بالصدفة أثناء عسه ليلاً متنكرًا ـ بالمظالم التى يرتكبها وزيره الصدر لأعظم « تشانجى على باشا » ، فأمر بقتله فى 22 أكتوبر 1755م ، وأمر بوضع رأسه فى صحن من الفضة على باب السراى ، ليكون عبرةً لغيره !