التركية العثمانية وأنهار الدماء (5)

كان « عثمان خان الثانى »، ابن السلطان « أحمد الأول »، إلاَّ أن الانكشارية سرعان ما عزلته فى 20 مايو 1622م، وولوا مكانه السلطان المعزول « مصطفى خان الأول » بيد أن الانكشارية لم تكتف بعزل السلطان « عثمان خان الثانى »، وإنما هاجموا قصره، وانتهكوا حرماته، وقبضوا عليه بين جواريه وزوجاته، وقادوه إلى ثكناتهم، موسعين إياه سبًّا وشتمًا وإهانة، مما لم يسبق له مثيل في الدولة العلية على حد تعبير الأستاذ محمد فريد، ثم نقلوه إلى القلعة المعروفة بذات السبع قلل، حيث كان بانتظاره داود باشا وعمر باشا الكيخيا وقلندر أوغلى وغيرهم، فقتلوه وهو لما يزل في الثانية عشرة من عمره، وليصير الحكم ألعوبة في يد الانكشارية ينصبون من الوزراء من يشاءون، ويعزلون من يشاءون، والسلطان « مصطفى خان الأول » لا حول له ولا قوة، فهم الذين أعادوه إلى السلطنة، وشاعت الاضطرابات، وأمعن الانكشارية في النهب والسلب والقتل، حتى لم يجد الأهالي بدًّا من اللجوء إلى « كمانكش على باشا »، وعينوه صدرًا أعظم لخبرته واستعداداته، فأشار بعزل السلطان مصطفى ثانيةً، لثبوت ضعف عزيمته ووهن عقله، فعزلوه في 11 سبتمبر 1623 م، وولوا مكانه السلطان الغازي « مراد خان الرابع ».

كان الانكشارية هم الذين ولوا السلطان السابع عشر « مراد خان الرابع »، بعد عزل عمه « مصطفى الأول » ابن السلطان « محمد الثالث »، واختاروه لحداثة سنة، حتى لا يقوى على معارضة استبدادهم أو مقاومة نفوذهم الذي اكتسبوه بقتل سلطان وعزل غيره، ولذلك استمروا مدة العشر سنين الأولى من حكمه على غيهم وطغيانهم.

ومع هذا الانحدار، ووهن الدولة إزاء هذه الاضطرابات، انتهز الفرصة الشاه عباس ملك العجم، لتوسيع أملاكه على حساب حدود الدولة العثمانية، وما كان قد حققه السلطان الغازي سليمان القانونى.

ويروي محمد بك فريد أنه في غضون ذلك أصدر السلطان أمرًا بعزل « خسرو باشا » وإعادة « حافظ باشا » إلى منصب الصدر الأعظم، إلاَّ أن المعزول سعى لإثارة الجند، وزعم لهم أنه لم يُعْزل من منصبه إلاَّ لمساعدته لهم، فثاروا وهاجوا وماجوا وطلبوا إعادة الصدر المعزول إلى موقعه، فلما لم يجبهم السلطان إلى طلبهم، ساروا إلى القسطنطينية في ثورة عنيفة، واقتحموا السراى السلطانية في 18 رجب 1041 هـ / 9 فبراير 1632م، وقتلوا رغم تدخل السلطان ـ الصدر الأعظم حافظ باشا، فانتفض السلطان يدافع عن كيانه، وأمر بقتل « خسرو باشا » محرك هذه الفتنة، وأظهر السلطان عزمًا، فجعل يسائل رءوس الانكشارية، وغيرهم ممن هيجوا الخواطر، وصار يقتل كل من يثبت فى حقه أى مساهمة فى هذه الفتنة، وقتل « رجب باشا » الذى سعى لتجديد ثورة الانكشارية، وألقى بجثته من نوافذ القصر حتى يراها المتجمهرون، وقد كان أن سكنت الخواطر، وعزف الناس عن تأييد الانكشارية، ثم إن السلطان أمر والى دمشق بمحاربة فخر الدين أمير الدروز وإدخاله فى طاعة الدولة، فنجح الوالي في مهمته، وأرسل فخر الدين وولديه إلى القسطنطينية حيث احتفى السلطان بهم، ولكن ما إن بلغه أن أحد أحفاد فخر الدين ثار ثانية ونهب بعض المدائن بالشام، حتى أمر السلطان بقتل الأمير فخر الدين وولده الأكبر فقتلا، وامتثل الدروز للطاعة، وإن بقيت الإمارة فى ذرية فخر الدين نحو مائة سنة، ثم انتقلت إلى عائلة شهاب التي منها الأمير بشير الشهير الذي شارك في حروب إبراهيم باشا ابن محمد على باشا.

لم يتوقف تراجع الدولة العثمانية، مثلما لم يتوقف الإمعان في الاستبداد، وفي إراقة الدماء.

فبعد ثورة الانكشارية وقتلهم الصدر الأعظم حافظ باشا، وثورة فخر الدين الدرزي، ثم وفاة السلطان السابع عشر « مراد خان الرابع » فى 16 شوال 1049 هـ/ 9 فبراير 1640م، آل الحكم إلى السلطان الثامن عشر « إبراهيم خان الأول »، وهو ابن السلطان أحمد الأول، ومع عنايته بالفتوح، فإنه بعد فتح مدينة غرناطة وأغلب الجزيرة سنة 1646م/ 1056 هـ، ومحاصرته التي لم تفلح لمدينة « كنديا » عاصمة الجزيرة، أراد أن يفتك برءوس الانكشارية الذين عانت البلاد والأمة منهم كثيرًا، ورتب لإتمام ذلك في ليلة زفاف إحدى بناته على ابن الصدر الأعظم، فعلم الانكشارية بالأمر، واجتمعوا بمسجد يقال له « أورطة جامع »، وانضم إليهم بعض العلماء والمفتى، وقرروا عزل السلطان « إبراهيم خان الأول »، وتولية ابنه « محمد الرابع » الذي لم يكن قد أتم السابعة من عمره، ولكن طائفة « السباه » أظهروا عدم ارتياحهم للملك الطفل، وطلبوا إعادة السلطان إبراهيم إلى العرش، فخشى رؤساء العصابة التي عزلته من انتقامه إذا عاد، فصمموا على قتله، فساروا إلى السراى ومعهم الجلاد (قرة على)، حيث قتلوه « خنقًا » كما سبق أن قتلوا السلطان عثمان الثاني.

ومن عجائب الدولة العلية: التركية العثمانية، وهى عجائب لا تنتهي، أن وضعوا على دست الحكم طفلاً في السابعة من عمره، وهو السلطان الطفل «محمد خان الرابع »، وهو التاسع عشر في سلسلة سلاطين الدولة العلية التركية العثمانية . ثم تنصيبه على عرش السلطنة في 8 أغسطس سنة 1648 م، ولصغر سنه، وقعت البلاد في فوضى عارمة، وسعى الجنود في الأرض فسادًا، وبلغت الحالة من السوء ما كانت قد وصلت إليه قبل تولي السلطان مراد الرابع، بل ما هو أسوأ وأتعس، وتوالت الثورات، تارة من الإنكشارية، وطورًا من السباه، وآونة من الأهالي، وقد حاول الوزير « محمد باشا » الشهير بكوبريلي الذي تولى منصب الصدارة، تدارك الأمور، فاشتد في معاملة الانكشارية، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق بطريرك الأروام لتداخله في الدسائس والفتن الداخلية، ويحسب له الأستاذ محمد فريد في كتابه « الدولة العلية » أنه استصدر أمرًا من السلطان بمنع قتل سلفه الذي كان قد أمر بقتله ! بل وعينه واليًا على « كانيشه » بيد أن الأمور سرعان ما تعود إلى سفك الدماء في دولة الخلافة العلية !!