التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (17)
التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (17)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 21/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
في نشرة « أريك » رقم 38 سبتمبر 2013، وهي نشرة غير دورية تصدرها جمعية القاهرة الخيرية الأرمنية، تعبيرًا عن تاريخ وإبداعات الأرمن، وعن همومهم وآمالهم، وتعبيرهم عما يلقونه في مصر من ود وإخاء، وتنويههم بالإبداع المصري في الماضي والحاضر، وهي نشرة توالي الجالية الأرمنية إرسالها هدية لي بانتظام، أطللت فيها علي عدد كثير من إبداعات هذه الشعب المتميز، وعلاقاته الراسخة الجذور في أنحاء مصر، يندمجون في شعبها في محبة وإخاء، ويقدمون إبداعاتهم في الفنون والموسيقى والغناء، وفي التصوير والفنون التشكيلية، وصار كثيرون منهم نجومًا متلئلئة في سماء مصر المحروسة !
في ذلك العدد، قدمت « أريك » لمقال تصويري إعداد « عطا درغام » ـ عن آلام وآمال الأرمن في ذكرى مئوية الإبادة التركية لهم، والتي يتخذون من يوم الرابع والعشرين من أبريل سنة 1915 ــ ميعادًا سنويًا لها، فتقول إن هذا اليوم سيظل محفورًا في الذاكرة الأرمنية، ذلك اليوم الذي بدأ فيه حفنه من العثمانيين تسلقوا خفية علي جدار التاريخ، مستغلين انشغال العالم بالحرب العالمية الأولي، وارتكبوا أكبر إبادة بشرية في مستهل القرن العشرين، حيث راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني. يوم الرابع والعشرين من أبريل يُعد ذكرى تهجير شعب من قراه ومدنه، وذبحه وقتله وإبادته في الصحارى والجبال والكهوف والوديان، ذكرى محو تراث، تميز عبر تاريخه الطويل، بإنجازاته الرائعة. وبالرغم من التخاذل والصمت الدوليين، فإن الأرمن يُحييون هذه الذكرى كل عام مطالبين أن تعترف تركيا بالإبادة في حق هذا الشعب الذي سُلبت ممتلكاته ومقدساته وأراضيه !
تقول «أريك » إنه في عام 2015 يكون قد مَرَّ قرن كامل علي مذابح الأرمن التي ارتكبتها القوات التركية أثناء الحرب العالمية الأولي، ولا تزال أرض أرمينية المحتلة والمهجور إرثها الثقافي تسكن ضمير كل أرمني، ولا تزال أرواح الشهداء تفتقد الراحة الأبدية !
وفي افتتاحية العدد 36 من « أريك »، يونيو 2013، كتب الدكتور محمد رفعت إمام، أستاذ التاريخ، ورئيس التحرير، عن السياق التاريخي للمذابح الحميدية (1894ــ 1896)، نسبة إلي السلطان العثماني « عبد الحميد الثاني »، كتب أن القضية الأرمنية في الدولة العثمانية التركية، ولدت رسميًّا بموجب المادة /61 من معاهدة برلين عام 1878، التي نصت علي تعهد الباب العالي، وبدون تأخير، بإدخال الإصلاحات والتحسينات الواجبة في المناطق التي يقطنها الأرمن، وضمان أمنهم، كما يتعين علي الباب العالي إحاطة القوى الكبرى ــ التي ستتابع تنفيذ الإصلاحات بما يتم.
بيد أن الإدارة العثمانية لم تنفذ ما تعهدت به من إصلاحات للأرمن، في الوقت الذي انشغلت فيه الدول الأوروبية بمصالحها الكبرى، مما أدى إلي ميلاد « تنظيمات ثورية أرمنية » للتعبير عن آلام الأرمن وآمالهم، ووقعت مظاهرات وانتفاضات وتجاوزات، قابلها الباب العالي بسلسلة مضادة من التنكيلات والمصادرات والاتهامات والمحاكمات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ تولد عن تصاعد الأزمة الأرمنية تدشين النظام العثماني سياسة « المذابح » كآلية رسمية لمواجهة انتفاضات الأرمن خلال الفترة من 1894ــ 1896. ورغم الجدل حول عدد ضحايا الأرمن في هذه المذابح الذي يتراوح بين «100 ــ 150» ألف نسمة في تلك الفترة، فإنه من الثابت نزوح آلاف آخرين إلي البلاد العربية وروسيا والبلقان وأوروبا والولايات المتحدة، مما أدى إلي خلخلة البنية السكانية الأرمنية وبالذات في أرضروم وڤان وبيتليس، وكذا بقية الخريطة السكانية الأرمنية.
ورغم أن القضية الأرمنية كانت لا تعدو أن تكون مجرد مجموعة « إصلاحات إدارية » في الولايات التي يسكنها الأرمن في شرقي الأناضول، فإن الغرب انتهز الفرصة ليصورها للرأي العام علي أنها صراع الإسلام ضد المسيحية، ووصف المذابح التي نجمـت عنهـا بأنها « دينية »، بل وتعمدت أدبيات الغرب تشوية الإسلام من خلال الربط بينه وبين اقتراف المذابح.
وليس أدل علي كذب هذا الافتراء والسعي الكاذب لتديين المذابح، بينما هي صراعات بل بطشات السلطة، من أن القرن التاسع عشر شهد أيضًا، وفي خط موازٍ لمذابح الأرمن، شهد « مذابح كبيرة ضد الشعوب المسلمة » !
وجدير بالذكر أن الأزهر الشريف أصدر بيانًا بتوقيع وخاتم الشيخ سليم البشرى، شيخ الجامع الأزهر ــ أدان فيه المذابح التي وقعت في « أضنة » في أبريل 1909، وهي وثيقة دامغة علي موقف الإسلام وحمايته أبناء الديانات الأخرى.
وفي خضم هذه الظروف التي أحاطت بدولة الخلافة التركية العثمانية، تحول نفور العثمانيين من الأرمن، إلي الكراهية السافرة !
وتشهد مجلة « أريك » في عددها سبتمبر 2013، بأهمية المصادر العربية للتعرف علي مأساة الأرمن، وتؤكد امتياز المواقف العربية المسلمة إلي جوار الأرمن، من منطلق أن الإسلام دين محبة وسلام، ويقدس الروح الإنسانية، ويصونها ويجرم في الدنيا والآخرة أي مساس بها.
وتشير « أريك » إلي إيجابية وفعالية « المواقف » التي اتخذها العرب المسلمون إزاء الإبادة الكبرى التي لحقت بالأرمن علي أيدى حكومة « تركيا القناة » منذ نجاحها في عزل السلطان عبد الحميد الثاني في أبريل 1909.
وتضيف أنه في ذات ذلك الشهر، اقترف النظام العثماني الحاكم إبادة مصغرة للأرمن في إقليم قيليقية لاسيما قاعدتها أضنة، وهي أشبه بـ « بروفة » لقياس ردود الفعل الدولية لما خططوا له مستقبلاً، وقد تفاعل العرب عمومًا والمصريون خصوصًا مع الضحايا الأرمن. وخرجت من مصر أجرأ الردود ضد السلطنة والقائمين عليها، وفي هذا الصدد، تفخر مؤسسة الأزهر بفتواها الصائبة للشيخ سليم البشرى التي استنكرت بقـوة « ذبح »الأبرياء باسم الدين، وبذا، تحدت فتوى مشيخة الأزهر المصرية هذا التطرف والهمجية !
ولا يزال لهذه المآسي بقية !