التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (12)
التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (12)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 16/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ألممنا بجانب فقط مما قدمته مصر فيما لا ناقه فيه ولا جمل، إلى دولة الخلافة التركية العثمانية، وسوف نرى كيف لاقت مصر بعد ذلك جزاء سنمار، حين أغار الأسطولان الإنجليزي والفرنسي على الإسكندرية في يوليو 1882 م، وحين بدأ الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882 م / 1300 هـ، دون أن تحرك دولة الخلافة العثمانية ساكنًا، بل أعانت الأعداء وخذلت مصر الداخلة آنذاك في رعويتها، وأصدرت فرمانًا بإعلان عصيان زعيمها أحمد عرابي الذي يتصدى للهجوم البريطاني، وقد وقعت كل هذه المخازي في عهد السلطان الخامس والثلاثين : « عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد »، والذي امتد حكمه من سنة 1876م/ 1293 هـ، حتى سنة 1909 م / 1327 هـ !!!
ما بين سنة 1861م /1277 هـ التي انتهت فيها ولاية السلطان « عبد المجيد خان » بوفاته، وبين إلغاء مصطفي كمال أتاتورك للخلافة في 3 مارس 1924م / 26 رجب 1343هـ ـ نحو ثلاثة وستين عامًا، تعاقب فيها على دولة الخلافة ستة سلاطين أو خلفاء : السلطان الثالث والثلاثون : « عبد العزيز خان بن محمود »، ثم السلطان الرابع والثلاثون : « مراد خان الخامس » ( ابن عبد المجيد خان )، ثم السلطان الخامس والثلاثون : « عبد الحميد خان الثاني »( ابن عبد المجيد خان ) ثم السلطان السادس والثلاثون : « محمد رشاد خان الخامس »، ثم السلطان السابع والثلاثون : « محمد خان السادس »، وأخيرًا السلطان الثامن والثلاثون، آخر السلاطين أو الخلفاء : « عبد المجيد خان الثاني ».
وكان الاستبداد هو القاسم المشترك بين هؤلاء السلاطين أو الخلفاء الستة، وكان أكثرهم استبدادًا السلطان « عبد الحميد الثاني » المعروف لدينا في مصر، فاستحق أن يكون المستبد الأكبر !
تولى السلطان « عبد العزيز خان بن محمود » في 18 ذي الحجة 1277هـ / 26 يونيو 1861 م، ولم يتفق مساره في الحكم، ولا عزله، مع الموكب الحافل لتنصيبه ؛ الذي بدأ كالعادة من ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري، ولا مع الاحتفال الضخم الذي استُقبلت به ولايته، فقد زاد إدبار الدولة في عهده، وزادت الأمور سوءًا، فما كاد يعلن أنه جاء ناقمًا على ما وصلت إليه الأحوال من سوءٍ بالغ في عهد أخيه « عبد المجيد »، وأنه آتٍ لإصلاح المفاسد التي شاعت في المالية، والإدارة، والجيش ـ حتى تبددت وعوده، وجرفه البذخ والترف والتنعّم والإسراف في التبديد، وكان من بلاياه أن أوقد شعور البغضاء والحقد بين عناصر الأمة، وأوقع البلاد في الاستدانة الضخمة من المصارف الأجنبية لتغطية كثرة إسرافه، ثم جاءت النهاية باتفاق كبار رجال الدولة على عزله، واستصدروا فتوى من شيخ الإسلام بوجوب عزله ـ لأنه مختل الشعور، يبدد الأموال الميرية ( الأميرية ) في مصارفه النفسانية، إلى درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها، وأنه أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها، وخرب الملك والملة، وبقاؤه مضرٌّ بهما .
وفي 6 جمادى الأولى 1293 هـ / 29 مايو 1876 م، تم عزله، ومبايعة السلطان الثالث والثلاثين « مراد خان الخامس » ( ابن عبد المجيد ) .
ولم يستكمل السلطان « مراد خان الخامس » في الحكم شهورًا، وقبل أن تنقضي هذه الشهور، مات السلطان المعزول « عبد العزيز خان » ميتةً كثرت فيها الروايات والأقاويل، ما بين قائل بأنه قَتَلَ نفسه لاختلال قواه العقلية بعد خلعه، وبين قائل بأن المتآمرين على عزله قتلوه خيفة أن يعود إلى الحكم، إلاَّ أن الغموض ظل مكتنفًا كيفية موته، رغم اجتهاد الوزراء في تكليف أطباء القناصل لكتابة تقرير طبي يرجح أنه قَتَلَ نفسه .
وقُتل أيضًا في هذه الشهور التي تولاها السلطان « مراد خان الخامس » ـ قُتل كل من حسين عوني باشا ومحمد راشد باشا، في قصة طويلة متهمٌ فيها حسن بن إسماعيل بك أحد أعيان الجراكسة الذين هاجروا من بلادهم بعد دخولها ضمن أملاك الدولة الروسية .
إلاَّ أن السلطان مراد نفسه، لم يلبث أن عُزل من السلطنة لاختلال قواه العقلية، فقد ظهرت عليه فيما قيل بوادر الاضطراب العصبى عقب توليته بنحو أسبوع، ثم تفاقمت حالته سيما بعد خبر قتل حسين عوني باشا ومحمد راشد باشا، وبدأت تداخله خيالات حالت دون الاحتفال بتنصيبه وتسليمه السيف السلطاني في جامع أبى أيوب الأنصاري كما تجرى المراسم، واستدعى الوزراء لفحصه الطبيب « ليدزورف » النمساوي الشهير بمعالجة الأمراض العقلية، فأفاد بأنه ميئوس من شفائه، وانتهي الأمر باجتماع الوزراء يوم الأربعاء 10 من شعبان 1293 هـ /30 أغسطس 1876 م، حيث قرروا بوجوب مبايعة « عبد الحميد خان الثاني »، وتمت مبايعته فعلاً في اليوم التالى بعد عزل السلطان مراد خان الخامس الذي لم يلبث في الحكم سوى ثلاثة شهور .
أما السلطان الرابع والثلاثون : « عبد الحميد خان الثاني »، فقد تم الاحتفال بتنصيبه وفقًا للمراسم المعتادة، في 18 شعبان 1293 هـ / 10 سبتمبر 1876م .
وقد حاز هذا السلطان المعروف تمامًا للمصريين، لقب المستبد الأكبر ـ وزاد البلاء في عهده، حيث لعبت الهواجس برأسه لكثرة ما سمع من حوادث قتل وخلع أجداده، وآخرهم « عبد العزيز خان » الذي خُلِعَ وقيل إنه قتل، فأكثر السلطان عبد الحميد فيما يقول الأستاذ أحمد أمين ـ أكثر من العيون والجواسيس، وتعقب كل صاحب فكر أو رأي، وداخله أنه السلطان الأعظم، والخاقان الأفخم، وسلطان البرين والبحرين، وإمام الحرمين الشريفين، وأنه ظل الله في أرضه، وجعل يصادر الكتب التي جاء فيها أن الأئمة من قريش، ويمنع طباعة العقائد النسفية لأنها تتضمن فصلاً عن الإمامة وشروط الخلافة، وفرض شروطًا وتراخيص للسماح بدخول الكتب المطبوعة أو القادمة من الشام والعراق، وصادر كتبًا لمجرد عبارات أو عبارة وردت فيها .
وبذلك إقتربنا من ميقات الوزر الأكبر والجرم في حق مصر التي لم تنل عن استنزاف ثرواتها وخيراتها، وما قدمته وبذلته للدولة العلية التركية العثمانية بصفوة رجالها وقواتها وأسطولها، فلم تلاق من دولة الخلافة إلاَّ جزاء سنمار !!
أما فصول هذه المأساة، فعلى لقاء معها بالمقال القادم بمشيئة الله .