التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (11)

التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (11)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 9/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

على مدى خمسة شهور تحملت القوات المصرية جهودًا شاقة، وخاض أسطولها معارك رهيبة بنحو 280 سفينة نقل وثمانية وثلاثين ألف مقاتل ، غير السفن الحربية، وقبل أن يتحقق لها الأسطول المتكامل، ولم تخسر سوى سفينتين حربيتين .

وفي الطريق إلى بر المورة ، أقلع إبراهيم باشا من كريت إلى ميناء « مودون » جنوبي المورة ، حيث نجح بعد لأي في إنزال الجنود المصريين إلى البر في فبراير 1827م /1243هـ  وهناك وجد القوات التركية العثمانية في حالة بائسة ، ولم يبق للدولة العلية سوى ميناء «مودون» الذي نزلت فيه القوات المصرية وميناء « كورون » المحاصر باليونانيين ، وما لبث المصريون أن فتحوا مدينة « ناورين » أو« نافارين » في مايو 1825 م / رمضان 1240هـ .

وتطورت المعارك ما بين تعرض السواحل المصرية لهجمات السفن اليونانية التي أحفظها اشتراك مصر في الحرب ، وبين فتح « كلاماتا » التي اعتصم فيها الثوار اليونانيون بعد سقوط « نافارين » ، ثم فتح مدينة « تريبولتا » عاصمة المورة في يونيو 1825 م / 1241 هـ ، ثم فتح مدينة « ميسولونجى » في أبريل 1826 م / 1242 هـ ، ثم اتساع دائرة الحرب بتدخل الدول الأوروبية إلى جانب اليونان ، وتجهيز حملة مصرية لإمداد إبراهيم باشا أقلعت من الإسكندرية إلى « نافارين » في أوائل أغسطس 1827 م / 1243 هـ ، حيث دارت معركة « نافارين البحرية » مع أساطيل الحلفاء في أكتوبر 1827م/ 1243 هـ ، وفيها تم تدمير القوة الرئيسية للأسطول المصري ، وليحدث الخلاف بين وجهة نظر تركيا العثمانية التي ركبها العناد الضرير ، وبين مصر التي كان لا بد في النهاية أن يضيق القائمون عليها من عماء إشراك مصر في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل ، فضلاً عن مقاومة حق اليونان في الاستقلال عن رعوية الدولة العلية التركية العثمانية ، وهو ما كان على مصر أن تسعى إليه لنفسها بدل استنزافها في حروب ضروس خدمة لأطماع دولة الخلافة التركية العثمانية ، وضد مصالح مصر والمصريين !!

وما كادت دولة الخلافة التركية العثمانية تفرغ من الزج بمصر واستغلال قوتها وجلد بنيها في تلك الحروب ، حتى سارعت بالزج بمصر في حروب الشام . كان كثيرون من المصريين قد هربوا إلى الشام فرارًا من وطأة السخرة والضرائب الفادحة التي جعل محمد على باشا يفرضها لتحقيق كفاية صناعية ، ودعمًا للجيش وتسليحه ، وللأسطول الذي خسر جانبًا من قوته وحيويته في حروب اليونان التي أقحمت فيها مصر ، فلما كثرت هجرة المصريين إلى الشام ، طلب محمد على باشا من والى عكا إرجاعهم ، فامتنع بدعوى أن الإقليمين : الشام ومصر ـ تابعان لسلطان واحد هو سلطان دولة الخلافة العثمانية .

أمر محمد على باشا بتجهيز الجيوش للسفر إلى بلاد الشام في سنة1831 م /1247 هـ عن طريق العريش ، وعن طريق البحر ، وبعد حصار مزدوج من البر والبحر ، نجح المصريون في دخول عكا ، بيد أن السلطان محمود خان الثاني ، ما كاد يأتيه الخبر ، حتى أفصح عن العداء الكامن ، فجمع سريعًا نحو ستين ألف مقاتل بقيادة حسين باشا ، ووجههم إلى الشام لملاقاة القوات المصرية !

وانتهت المعارك في تفصيل يطول ، بانتصار القوات المصرية على قوات الدولة العلية التركية العثمانية انتصارًا عظيمًا ، في ربيع الأول 1248 هـ / يوليو 1832 م ، فسارع السلطان العثماني « محمود خان الثاني » بتجهيز جيش آخر قلد رئاسته إلى « رشيد باشا » الذي اشترك مع إبراهيم باشا في حرب « مورة » ، وأرسله إلى الأناضول لصد هجمات إبراهيم باشا عن القسطنطينية ، فانتصرت القوات المصرية وأخذت رشيد باشا أسيرًا في 27 رجب 1248 هـ / 21 ديسمبر 1832 م .

وسرعان ما تفشى القلق من تنامى قوة المصريين ، سواء لدى دولة الخلافة العثمانية ، أم الدول الأوروبية التي جعلت تتحسب من أن يكون قصد محمد على باشا احتلال الآستانة وإسقاط عائلة بنى عثمان ، والاستئثار لنفسه بالخلافة الإسلامية .

وإثر تقدم الجيش المصري إلى دمشق ( يونيو 1832 م / 1248 هـ ) ، ثم انتصاره في واقعة حمص ( 8 يوليو 1832 م / 1248 هـ ) زاد جزع الباب العالي ، وزاد الجزع بعد انتصار الجيش المصري في واقعة « بيلان » في 30 يوليو 1832 م / 1248 هـ ، وتقدمه بلا مقاومة إلى « حماه » ثم « حلب » حيث جاءته الوفود من « أورقا » ومن « ديار بكر » ، فحشد جيشًا ضخمًا التقى بالقوات المصرية في « واقعة قونيا » في ديسمبر 1832م/ 1248هـ ، حيث انتهت المعارك بانتصار الجيش المصري وهزيمة الجيش التركي العثماني بعد معركة هائلة وفاصلة ، لأنها فتحت الطريق أمام الجيش المصري إلى الآستانة ، فكان أن ارتعدت فرائص السلطان العثماني محمود خان الثاني .

وسرعان ما تدخلت الدول الأوروبية ، لفتح باب المسألة المصرية ، وانتهت جهود الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا ، لإبرام معاهدة « كوتاهية » ، أسست لصلح هش في الواقع ، سرعان ما تهاوى ، ودار ما يسمى بحرب الشام الثانية ، ولم تتلاق وجهات النظر رغم المداولات الطويلة ، لتدور « معركة نصيبين » ، وليحقق المصريون نصرًا مؤزرًا فيها على قوات الخلافة العثمانية في ربيع الثاني 1255 هـ / يونيو 1839م ، إلاَّ أن أخبار هذه المعركة لم تصل إلى السلطان محمود خان الذي توفي في 19 ربيع الآخر سنة 1255 هـ ، أول يوليو 1839م .

زاد ارتباك دولة الخلافة التركية العثمانية بوفاة السلطان محمود خان الثاني ، وتولى السلطنة « عبد الحميد خان » عرش الدولة ، وكانت سنه دون الثمانية عشرة ، وتلك من عجائب دولة الخلافة العلية ، وزاد الارتباك والاضطراب بعد الانتصارات المتتالية التي حققتها القوات المصرية على القوات التركية العثمانية ، انتهاءً بالانتصار الضخم في « معركة نصيبين ».

زر الذهاب إلى الأعلى