التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (10)

التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (10)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 2/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

واجهت دولة الخلافة العلية التركية العثمانية ، ثورة كبيرة باليونان التي نهضت تطلب استقلالها عن الدولة العلية ، وتكبدت الجيوش العثمانية خسائر فادحة في كافة المحاولات التي اصطنعتها لقمع هذه الثورة ، فلما أعيتها الخسائر والحيل ، نظرت كالعادة إلى مصر ، لتستنزفها وتستنزف خيراتها وقوتها وأرواح بنيها ، ولاقت بغيتها في محمد على باشا ، واليها المعين على مصر ، واثقة من أن حرصه على موقعه ، سيدفعه دفعًا إلى قبول ما تمليه عليه الدولة العلية .

ولم يسع محمد على باشا إلاَّ الإذعان لمطالب ـ أو أوامر ! ـ الدولة العلية ، خوفًا من حمل امتناعه ـ أو تراخيه ـ على أنه عصيان للدولة العلية ، ومؤشر للرغبة في الاستقلال عنها ، فيما يبدو أن رغاب دولة الخلافة التركية العثمانية كانت مقدمة عند محمد على ـ على مصالح مصر الخاصة ، وأن انصياعه للباب العالي ـ آنذاك ـ اقترن باستنزاف خيرات مصر وقوتها وأرواح شبابها ورجالها .

ولم تتوقف عيون الدولة التركية العثمانية عن مصادر القوة المصرية لاستغلالها لصالحها في كل باب ، ولم تغفل هذه العيون أو المآرب عن الأسطول المصري الذى صار قوة ملحوظة  ، وبدأت استعانة دولة الخلافة التركية العثمانية ـ بالأسطول المصري ، فأرسل السلطان محمود الثاني إلى محمد على باشا بتجريد الأسطول المصري لتطهير البحر الأبيض الذى استفحل فيه أمر السفن اليونانية ، من قرصنة هذه السفن ، وكان ذلك في سنة 1821 م ، أي قبل الحملة المصرية على المورة .

ويورد الرافعي في كتابه عن « عصر محمد علي » ـ نقلاً عن كتاب المسيو « مانجان » ، أن محمد على أعدَّ الأسطول في الإسكندرية ، وأقلع منها فى 10 يوليو 1821م (1237 هـ) ، وكان مؤلفًا من 16 سفينة كاملة السلاح والعتاد ، وبها ثمانمائة مقاتل بقيادة « طبوز أوغلى »، فاتجه الأسطول إلى رودس لمطاردة السفن اليونانية ، والتقى بالأسطول العثماني في الدردنيل ، ثم عاد إلى مصر ف مارس 1822م (1238 هـ) ، تأهبًا للحملة إلى جزيرة كريت.

واستمرارًا فى إذعان محمد على لمطالب أو أوامر الباب العالي ، جهز قوة في نحو سبعة عشر ألفًا من المشاة والفرسان والمدفعية ، تأهبًا للقيام بعدة مهام ، تبدأ بجزيرة « كريت » التي شبت فيها ثورة سنة 1821م / 1237 هـ ، لتقفى ببلاد المورة ، ثم بجزر الأرخبيل .

وقد أقلعت حملة الأسطول المصري إلى كريت من الإسكندرية في نحو خمسة آلاف جندي ، طبقًا لرواية الرافعي ، بقيادة حسن باشا ، قاصدةً جزيرة كريت ، حيث تم إنزال الجنود إلى البر في يونيو 1822م (1238هـ) ، واستمرت الحرب سجالاً إلى سنة 1823م / 1239هـ ، وقاتل المصريون قتالاً شديدًا ، وأنقذوا الحاميات التركية المحصورة في القلاع ، ومات حسن باشا خلال الفتح ، فخلفه حسين بك في قيادة الجند ، واستمرت الحرب حتى سكنت الثورة واستتبت السكينة بالجزيرة ، بعد أن فر الكثيرون إلى الجزر اليونانية .

أما الحملة على المورة ، فقد سبق تكليف محمد على باشا بالقيام بها ، إصدار دولة الخلافة التركية العثمانية العلية ، فرمانًا في 5 رجب 1239هـ /6 مارس 1824م ، لترضى به أطماع وطموحات محمد على ، فعينته واليًا على جزيرة « كريد » (كريت) وعلى إقليم « المورة » ، وهما بؤرتا الثورة .

ويرى الأستاذ الرافعي، أن السلطان العثماني محمود الثاني ، استهدف غرضين : أولهما الاستعانة بالجيش المصري في إخماد ثورة اليونان ، وثانيهما أن يصرف محمد على باشا عن الاستمرار في دعم وتنظيم جيشه على الطراز الحديث ، وخشية أن يقوى ـ بتعاظم قوته ـ على دولة الخلافة ويحقق فكرة الانفصال عنها وإعلان الاستقلال .

ويبدو أن ما أبطنه السلطان العثماني ، كان يتلاقى فعلاً مع أغراض محمد علي ، فقد وسع الفرمان نطاق الدولة المصرية التي يجلس على عرشها محمد على ، ويبسط نفوذها فيما وراء البحار ، ومن ثم يرفع من شأن محمد على ، ويعطيه الحافز لتلبية استنجاد الدولة العلية بجيشه مثلما استعانت به في الحجاز .

واتفقت رواية الأستاذ محمد بك فريد في كتابه : « الدولة العلية العثمانية » ، هي ورواية الأستاذ الرافعي في كتابه « عصر محمد على » ـ اتفقتا على أن الحملة تألفت من سبعة عشر ألفًا من المشاة، مع أربعة بلوكات من المدفعية، وسبعمائة من الفرسان / وأن القيادة العليا كانت لإبراهيم باشا، وعين محمد على لنقلها عمارة من 51 سفينة حربية و 146 سفينة نقل , وأقلعت من الإسكندرية في 19 من ذي القعدة 1239 هـ / 16 يوليو 1824 م، ولم تقصد رأسًا إلى جزيرة المورة ، بل اتجهت إلى مياه « رودس »، وفيها ترك إبراهيم باشا ـ ترك سليمان بك الفرنساوي مع حامية لحفظ الجزيرة من تعدى الثائرين , واتجه منها إلى خليج « ماكري » على شاطئ الأناضول للالتقاء بالأسطول العثماني الذي نيط به مطاردة السفن اليونانية في بحر الأرخبيل وتطهيره من قرصنتها .

ليس من أهداف هذه السطور بيان تفاصيل المعارك التي خاضتها القوات المصرية الباسلة، ولا البطولات التي حققتها في هذه الحروب التي دفعت إليها من دولة الخلافة التركية العثمانية تحقيقًا لأطماعها هي، والتي لم تنقطع عن اشتهائها على حساب الدول والشعوب الداخلة في رعويتها .

وحسبنا أن نعرف إجمالاً أن القوات المصرية خاضت من أجل أطماع دولة الخلافة، حروبًا ومعارك في خليج « ماكري »، وفي ميناء « بودروم » على شاطئ الأناضول في أواخر أغسطس 1824 م , 1240 هـ، وظهر خلال المعارك البحرية الفارق جليًّا بين فوضى الأسطول العثماني، ونظام الأسطول المصري الذي لاقى بمهارة هجمات سفن الثوار اليونان , وهو الذي صمد بينما لاذ الأسطول التركي العثماني بالفرار، واشتبك الأسطول المصري بمياه جزيرة « سافز » في معركة شديدة مع السفن اليونانية غرقت فيها سفينتان مصريتان، حيث أدرك إبراهيم باشا أن الحرب البرية في شبه جزيرة المورة أنسب، فعاد أدراجه إلى ميناء « مرمريس » جنوبًا، ثم إلى جزيرة كريت في ديسمبر 824 1م /1240 هـ .

زر الذهاب إلى الأعلى