الترقب الإسرائيلي!
نشر بجريدة الشروق الخميس 9/7/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
لم يكن لدى الهيئة الإسرائيلية ترحيب ببشارة «المسيح المنتظر»، بل هي تترقبها بحذر ورفض مسبق تعددت عوامله، يجمعها أن هذه البشارة تتضمن الحكم بفساد الزمن واليأس من صلاحه، ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تتنكر لهذه الدعوة لأنها باب الأمل الوحيد في وجه المؤمنين.
والكلام في القوى الدينية التي كان لها عمل محسوس في موطن السيد المسيح قبل ميلاده عليه السلام، يستوجب الإشارة إلى طائفة «النذريين» أو «المنذرين».. وهم الذين وهبوا أنفسهم أو وهبهم أهلهم لحياة القداسة وخدمة الله والتبشير باليوم الموعود.
ولم يكن «النذريين» طائفة تجمعها وحدة، وإنما كانوا آحادًا متفرقين ينذر كل منهم نفسه أو ينذره أهله على حدة لخدمة الرب.
ولم يكن يشترط في «النذري» أو «المنذور» أن يعتزل الناس أو يهجر العالم، ولكنه كان يراض على حياة التنطس، فلا يجوز له شرب الخمر ولا أن يدنس جسده بملامسة الموتى أوى الأجسام المحرمة.
وقد تكاثر النذريون قبيل مولد السيد المسيح لأنه وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة، وهو الموعد المنتظر لبعثة المسيح الموعود، حيث كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة.
والذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة.
والمهم في أمر النذريين بالنسبة إلى السيد المسيح، أن النبي يحيى المغتسل (يوحنا المعمدان) كان علمًا من أعلامهم المعدودين وأن السيد المسيح يُعَمّد على يديه أو يأخذ العهد عليه.
وقد كان النذريون قوة ذات بال، لأنهم كانوا فتية معمورة قلوبهم بالأمل معقودة نياتهم على الإصلاح.
الحياة السياسية والاجتماعية
فتحت سوريا وفلسطين للدولة الرومانية على يد القائد الكبير «بومباي» الذي قضى على ثورة العبيد الثالثة بقيادة «سبارتاكوس» الشهير.
وقد اعتبرت هزيمة «سبارتاكوس» من عظائم الأعمال التي احتسبت للقائد «بومباي» وخلدت ذكره بين عظماء الرومان، بعد قضائه على الثورة التي مثلت صدعًا خطيرًا للدولة.
ولم يكن سبارتاكوس ـ-وهو من أهل تراقية- أول عبد شرقي يثور على الدولة الرومانية، بل سبقه رقيق آخر إلى الثورة في صقلية سنة 143 ق . م واستطاع أن يقيم لنفسه عرشًا استقر في الجزيرة عشر سنوات، وتجلى قائدها «أونس» لأتباعه في صورة النبي المرسل، وسبقت ثورته وتلتها ثورات لم تخل من صبغة دينية فيما تدعيه لقادتها.
* * *
ولم يكن هذا الخطر الكامن خافيًا على المصلحين من ساسة الرومان، وأرادوا إصلاح العيوب الاجتماعية بالرجوع إلى الشريعة التي تقيد المواريث وتحرم الزيادة فيها على خمسمائة فدان.. ولكن عوامل الخراب كانت في تلك الأجيال أعمق وأكثر تأثيرًا من عوامل الصلاح.
ثم كان عصر أوغسطس المسمى بالمجيد، هو عصر الميلاد الذي قال فيه السيد المسيح في رواية متى «إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكارًا، أما ابن الإنسان فليس له ابن يسند رأسه».
* * *
والواقع أنه كان عصرًا مجيدًا بقوة السيف دون قوة أخرى من القوى الإنسانية، واستفادت روما من قوة السيف كل ما تعطيه.. وحققت فتوحات واسعة وسطوة تصد الأعداء وتقمع الثائرين، وضيعت الجمهورية في سبيل القيصرية المطلقة، بل ورفعت القيصر إلى مقام الربوبية، وخلعت على القيصر أوغسطس لقب إله، وقررت عبادته مع الآلهة ورصدت له شهرًا في السنة لا يزال معروفًا باسمه إلى اليوم.
وضاع القانون الذي كان فخر روما، ضاع مع السلطان المطلق، وضاع النظام مع التفاوت البعيد بين الحكام والمحكومين، فصدق في روما كلها وصف السيد المسيح لذلك الرجل الخاسر الذي كسب العالم وخسر نفسه!
ولم يستقر الأمر للدولة الرومانية إلاَّ بعد تنازع ضارٍ مع الفرس تغلب فيه أنصار الفرس على أنصار الرومان في بيت المقدس، وانضم إلى الرومان زعيم مشهور بالحزم والحصافة في البادية الجنوبية من فلسطين وكان على رأس قبائل الأدوميين، ثم كافأته الدولة الرومانية بتنصيبه ملكًا على يهوذا والسامرة والجليل حيث ولد السيد المسيح، وكافأهم هو بالإمعان في محاكاة المدنية الرومانية، وجعل يداهن السلطتين الدينية والمدنية، وغالى في الغيرة اليهودية التي كانت قبيلته تدين بها على سبيل المداراة.
ومع هذا الجهد الجهيد في التقريب، مات «هيرود» مغضوبًا عليه من قومه أشد الغضب، وقد عقد محكمة حُمل إليها وهو مريض لمحاكمة الغلاة من بنى قومه وقضى عليهم بالحرق أحياءً؛ وقبض على المحبوبين من زعمائهم وأوصى بقتلهم إذا مات حتى تذهب نفوس قومهم عليهم حسراتٍ، فلا يفرحون شماتة في موته، ومع هذا لم يمنعهم ذلك من الفرح لموته الذي ترقبوه!
توابع الانقسامات السياسية
تمت البليّة بتقسيم البلاد بين أبناء «هيرود» الثلاثة، فاختص «هيرود الثاني انتيباس» بالجليل حيث ولد السيد المسيح عليه السلام، ووقعت يهودا في حصة «أرخلاس»، ووقعت مشارف الشام في حصة « فيليب »، وكانت مراسم الولاية آنذاك أن يذهب الملك إلى روما ليتلقى عهد الإمارة من يدى القيصر.
وأقر القيصر الأبناء الثلاثة في ولاياتهم، ليتزايد التمزيق الذي تسعى إليه روما لتخيف كل ولاية من الأخرى وتستبقى لنفسها السيطرة، وقد زاد التمزق بين أبناء هيرود الثلاثة وبين حكومات النبطيين والمدن العشرة.
ومن المتواتر مع تصحيح تاريخ السنة كما سيأتي، أن السيد المسيح ولد في أعقاب ثورة جائحة اشتعلت في أقاليم فلسطين حيث يهودا على الخصوص، وأريقت فيها دماء الألوف من الغلاة، لأنهم هبوا في وجه الدولة الرومانية احتجاجًا على الإحصاء العام.
وأشعل الإحصاء نار الثورة لأنه أثار بين الإسرائيليين مشكلتين قديمتين، إحداهما الاعتراف بملك غير «يهودا» الذي يؤمن الإسرائيليون بأنه الإله والملك، وأن المبايعة لغيره كفر وخيانة، والثانية كانت مشكلة الضريبة وعسف الجباه في تحصيلها على نوعين: واحدة للهيكل، والأخرى للدولة.
وكان أداء الضريبتين عبئًا مرهقًا فوق طاقة الفقراء، ولكنه صار بالعسف في التحصيل عبئًا لا يطيقه الموسرون أيضًا.. لأن روما كانت تحصل الضريبة بطريق الالتزام والمزايدة، وكان الملتزم يأخذ لنفسه غير ما يسلمه لخزانة الدولة، فصار التحصيل يزيد على ضعفي المال المطلوب، ولهذا كانت طائفة «العشارين» بغيضة إلى الشعب، لا يغفر الناس لهم أنهم تجردوا لخدمة الملتزمين الأجانب ويبتزون من أرزاق المعوزين، ومن هنا كان إنكارهم على السيد المسيح أنه كان يخاطب العشارين ويدخل بيوتهم ويستمع إلى مناجاتهم، ولكنه كان يستمع لهم ويوصيهم بالأمانة في الجباية.
وقد أشعل الأمر بالإحصاء العام الظنون في زيادة الضرائب، ولا خلاف بين المؤرخين -فيما يورد العقاد- على أن الحالة السياسية في فلسطين كانت على أسوأ ما تكون، ويدل على ذلك تصفح الأناجيل التي صورت حالة البؤس واليأس التي كانت ترين على القرى والمدن في أقاليم فلسطين، ولا سيما إقليم الجليل.
ولم يأت أوان رسالة المسيح عليه السلام، حتى كانت قد سبقتها رسالات لرواد تمهد لها، ومن أقوى هؤلاء الرواد يحيى المغتسل أو يوحنا المعمدان، بيد أنه لم يكن الوحيد، فجعل للتطهير رمزًا هو الاغتسال بالماء، فكانت هذه الجسارة على التطهير كفؤًا لجسارة الطاغية الأثيم على الدنس والخيانة، وقد دمغ هذا العهد بأصدق صفاته حين بذل رأس النبي لراقصة مبذولة الجسد، ولا جرم أن يكون عصر «يحيى المغتسل» عصر رسالة عاجلة أو عصر ارتياد وتمهيد لرسالة السيد المسيح.