التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية بين الحظر والجواز
بقلم الدكتور: أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
الوساطة والتحكيم هي وسائل بديلة لحل المنازعات عن غير طريق القضاء. وقد شهدت النظم القضائية المقارنة مؤخراً توسعاً ملموساً في اللجوء إلى النظم البديلة لحل النزاعات، للقضاء على تكدس القضايا أمام المحاكم وتحقيق سرعة حسم المنازعات. كذلك، يأتي هذا التوجه ضمن استراتيجية عامة ينبغي على الحكومات اللجوء إليها، وهي توفير بدائل مختلفة لأداء الخدمات الحكومية، وبحيث يكون في مكنة المتعاملين الاختيار بينها وفقاً لما يتناسب مع مصالحهم.
والشائع والغالب هو أن يتم اللجوء إلى الوساطة والتحكيم في المنازعات المدنية والتجارية. وجدير بالذكر أن التشريعات الصادر في الدول العربية بشأن الوساطة تشير بشكل واضح وصريح في عنوانها إلى أن موضوعها هو «الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية». ولعل ذلك يبدو جلياً من عنوان القانون الاتحادي رقم (17) لسنة 2016 بإنشاء مراكز التوفيق والمصالحة في المنازعات المدنية والتجارية وعنوان القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2021 في شأن الوساطة لتسوية المنازعات المدنية والتجارية. وفيما يتعلق بالتحكيم، تجدر الإشارة إلى عنوان القانون المتعلق بالتحكيم في جمهورية مصر العربية، وهو «قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية»، الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994م. كذلك، لا يفوتنا الإشارة إلى عنوان قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية بدولة قطر، الصادر بالقانون رقم (2) لسنة 2017م. والأمر ذاته ينطبق على قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية بسلطنة عمان، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (47) لسنة 1997م. ومن خلال استعراض عناوين التشريعات سالفة الذكر، يبدو جلياً مدى الاهتمام التشريعي في الدول العربية بالتحكيم في المنازعات المدنية والتجارية، بينما يبقى التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية خارج دائرة الاهتمام. وفيما يتعلق بالفقه القانوني، وإذا كانت المؤلفات التي تتناول بالدراسة التحكيم في المواد المدنية والتجارية متعددة، فلا نغالي إذا قلنا بعدم وجود دراسة قانونية واحدة في العالم العربي تتناول بالبحث والتحليل موضوع التحكيم في منازعات الأحوال الشخصية. ويكاد يقتصر الأمر في هذا الشأن على بضع سطور فقط في المؤلفات العامة في التحكيم. على النقيض من ذلك، فإن الفقه القانوني الغربي يتضمن العديد من الدراسات عن التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية. راجع على سبيل المثال:
Carolyn Moran Zack, Family Law Arbitration – Practice, Procedure, and Forms, ABA, January 1, 2020.
وإزاء ذلك، فإن التساؤل قد يثور على نطاق واسع في العالم العربي عن مدى جواز الوساطة والتحكيم في مسائل الأحوال الشخصية. وفي الإجابة عن هذا التساؤل، نرى من الملائم أن نتناول أولاً الأساس الشرعي للتحكيم في مسائل الأحوال الشخصية، قبل أن نتعرض للأساس القانوني للتحكيم في هذه المنازعات، وذلك في مبحثين، كما يلي:
المبحث الأول: الأساس الشرعي للتحكيم.
المبحث الثاني: الأساس القانوني للتحكيم في منازعات الأحوال الشخصية.
المبحث الأول
الأساس الشرعي للتحكيم
عند الحديث عن التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو قول المولى عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (سورة النساء: الآية 35). وفي تفسير هذه الآية، قيل إن في قوله تعالى في الآية الخامسة والثلاثين من سورة النساء خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما قد تقدم معنى الشقاق في «البقرة». فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه. والمراد إن خفتم شقاقا بينهما؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك: يعجبني سير الليلة المقمرة، وصوم يوم عرفة. وفي التنزيل: بل مكر الليل والنهار. وقيل: إن «بين» أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما فابعثوا. وخفتم على الخلاف المتقدم. قال سعيد بن جبير: الحكم أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. وقد قيل: له أن يضرب قبل الوعظ. والأول أصح لترتيب ذلك في الآية.
الثانية: والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله: «وإن خفتم» الحكام والأمراء. وأن قوله: إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما يعني الحكمين؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. وقيل: المراد الزوجان؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين يوفق الله بينهما. وقيل: الخطاب للأولياء. يقول: إن خفتم أي علمتم خلافا بين الزوجين فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة؛ إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه. فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما. فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة الضرر. ويقال: إن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له: أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك؟ فإن قال: لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله النشوز. وإن قال: إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعلم أنه ليس بناشز. ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها: أتهوين زوجك أم لا؛ فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد؛ فيعلم أن النشوز من قبلها. وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي؛ فذلك قوله تعالى: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها.
الثالثة: قال العلماء: قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا. فإن كان الأول تركا؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول: يا بني هاشم، والله لا يحبكم قلبي أبدا! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة! ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة، أين شيبة بن ربيعة؛ فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت؛ فنشرت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما؛ وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة. فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما. وتفريقهما جائز على الزوجين؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما. والفراق في ذلك طلاق بائن. وقال قوم: ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك، وليعرفا الإمام؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان. ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق. وهذا أحد قولي الشافعي؛ وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن، وبه قال أبو ثور. والصحيح الأول، لأن للحكمين التطليق دون توكيل؛ وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس، وعن الشعبي والنخعي، وهو قول الشافعي؛ لأن الله تعالى قال: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى؛ فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ – فكيف لعالم – أن يركب معنى أحدهما على الآخر! وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها قال: جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة؛ قاله أبو عمر. فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما؟ وهذا بين. احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به. فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه. وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين.
الرابعة: فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه. وكذلك كل حكمين حكما في أمر؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا. وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال: تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة؛ وهو قول ابن القاسم. وقال ابن القاسم أيضاً: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها؛ وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء.
الخامسة: ويجزئ إرسال الواحد؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له: إن اعترفت فارجمها وكذلك قال عبد الملك في المدونة.
قلت: وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين. فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا، ولو كان غير عدل قال عبد الملك: حكمه منقوض؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر. قال ابن العربي: والصحيح نفوذه؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل، وباب القضاء مبني على الغرر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يئول إليه الحكم. قال ابن العربي: مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما. وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه. وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يجعلان على يدي أمين؛ وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزءوا. وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي. ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة، ولكن أعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر، بل أعجب مرتين للشافعي فإنه قال: الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما. قال: وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة. وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج؛ فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين. قال ابن العربي: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر. أما قوله: «الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين» فليس بصحيح بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء؛ فإن الله تعالى قال: الرجال قوامون على النساء – ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا؛ فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر؟ ثم قال: «وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه». ثم قال: «فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية. فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية». وأما قوله «برضى الزوجين وتوكيلهما» فخطأ صراح؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه. هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى. وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل (يراجع: تفسير القرطبي).
المبحث الثاني
الأساس القانوني للتحكيم في منازعات الأحوال الشخصية
يذكر بعض الفقهاء أن نظام الوساطة في الولايات المتحدة الأمريكية لا يقتصر على القضايا المالية، وإنما يشمل أيضاً المنازعات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية. ويتم اختيار الوسيط من قائمة تتبع كل محكمة (يراجع: د. أحمد السيد صاوي، الوسيط في شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية معدلاً بالقانون رقم 76 لسنة 2007 والقانون رقم 120 لسنة 2008 بإنشاء المحاكم الاقتصادية، 2011م، رقم 33 مكرراً 3، ص 105).
أما فيما يتعلق بالدول العربية، فإن موضوع التحكيم في المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية لم يحظ بالقدر الكافي من العناية والاهتمام، سواء من جانب المشرع أو من جانب الفقه. ولبيان موقف المشرع في هذا الشأن، نرى من الملائم إلقاء الضوء على النصوص الواردة في تشريعات التحكيم بهذا الخصوص.
ففي جمهورية مصر العربية، وطبقاً للمادة الحادية عشرة من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية، الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994م، «لا يجوز الاتفاق على التحكيم الا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف في حقوقه، ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح». وفيما يتعلق بالمسائل التي لا يجوز فيها الصلح، تنص المادة 551 من القانون المدني، الصادر بالقانون رقم 131 لسنة 1948م، على أنه «لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، ولكن يجوز الصلح على المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية، أو التي تنشأ عن ارتكاب احدى الجرائم». وتعليقاً على هذا النص، وتحت عنوان «عدم جواز التحكيم فيما لا يجوز فيه الصلح»، يقول بعض الفقه إنه وفقاً لنص المادة 11 من قانون التحكيم (لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح)، فلا يصلح محلا للتحكيم إلا الحق الذي يجوز التصالح عليه طبقاً لأحكام القانون المصري. وتتولى المادة 551 مدني بیان الأحوال التي لا يجوز فيها الصلح بنصها على أنه «لا بجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام. ولكن يجوز الصلح على المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم». وعلة منع التحكيم والصلح في المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بالنظام العام هي رغبة المشرع في بسط ولاية القضاء العام عليها. ولعدم جواز التحكيم بالنسبة للمسائل المتعلقة بالحالة الشخصية، فإنه لا يجوز التحكيم بشأن حالة شخص معين أو أهليته، أو لتحديد من صاحب الولاية أو الوصاية عليه، أو لتحديد نسب شخص معين، أو الفصل في منازعة حول الحق في حضانة طفل، أو الفصل في دعوى تطليق للضرر، أو في دعوى خلع، أو الفصل فيما إذا كان الزواج صحيحا أو باطلا، أو ما إذا كان قد حدث طلاق أم لا، أو حول حق الزوج في الطلاق، أو حول ما إذا كان الشخص يعتبر مفقودا أم لا. كما لا يجوز التحكيم حول نسب طفل إلى والده أو حول حق شخص في الإرث، ومع ذلك، فإنه يجوز التحكيم بشأن الحقوق المالية المترتبة على الحالة الشخصية كما هو الحال بالنسبة لتحديد مبلغ نفقة الزوجية أو نفقة المتعة. وعدم جواز التحكيم بالنسبة للمسائل المتعلقة بالنظام العام يقتضيه ليس فقط نص المادة 11/2 من قانون التحكيم ولكن أيضا النصوص العامة في القانون المدني. فاتفاق التحكيم شأنه شأن عقد يجب – كما قدمنا أن يكون محله قابلا للتعامل فيه، ولكي يكون المحل قابل للتعامل فيه يجب ألا يخالف النظام العام. ولهذا تنص المادة 136 مدني على أنه «إذا كان محل الالتزام مخالفا للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا»، وعلى هذا فإنه إذا كان اتفاق التحكيم ينشئ التزاما على عاتق كل من الطرفين بالالتجاء إلى التحكيم، فان الالتجاء إلى التحكيم باعتباره محل الالتزام يجب ألا ينصب على ما يتعلق بالنظام العام وإلا كان اتفاق التحكيم باطلاً (د. فتحي والي، التحكيم في النظرية، الطبعة الأولى، 2007م، رقم 59، ص 123؛ التحكيم في المنازعات الوطنية والتجارية الدولية علماً وعملاً، منشأة المعارف بالإسكندرية، الطبعة الأولى، 2014م، أرقام 72 و73 و74 و75، ص 144 وما بعدها).
وتطبيقاً لذلك، قضت محكمة النقض المصرية بأنه «لئن كان الحكم الذي يقضى بإلحاق عقد الصلح بمحضر الجلسة وإثبات محتواه فيه، لا يعدو – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون عقدا وليس له حجية الشيء المحكوم به وإن أعطى شكل الأحكام عند إثباته ولا يجوز الطعن فيه من طرفيه لأن القاضي وهو يصدق على الصلح لا يكون قائما بوظيفته – الفصل في خصومة – بل تكون مهمته مقصورة على إثبات ما حصل أمامه من اتفاق وتوثيقه بمقتضى سلطته الولائية وليس بمقتضى سلطته القضائية إلا أنه لما كانت النيابة العامة بعد صدور القانون رقم 628 لسنة 1955 أصبحت طرفا أصليا في قضايا الأحوال الشخصية التي لا تختص بها المحاكم الجزئية لها ما للخصوم من حقوق وعليها ما عليهم من واجبات فلها أن تبدى الطلبات والدفوع وتباشر كافة الإجراءات التي يحق للخصوم مباشرتها ومن ثم فإن الحكم الصادر بقبول الصلح يكون حجة على النيابة العامة ويحق لها الطعن فيه بطريق الاستئناف – لما كان ذلك وكان المقرر وفقا للمادة 551 من القانون المدني أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام وكان القانون رقم 103 لسنة 1976 بشأن التوثيق قد وضع شرطا لزواج المصرية بأجنبي، وكانت القيود التي تطلبها هذا القانون من النظام العام، فلا يجوز الصلح عليها، وكانت النيابة العامة قد طلبت في الاستئناف المقام منها إلغاء الحكم المستأنف ورفض الدعوى على سند من أن القانون 103 لسنة 1976 قد تطلب في المادة الخامسة منه توافر عدة شروط لتوثيق عقد زواج المصرية بأجنبي، وأوجبت المادة السادسة رفض التوثيق إذا لم تتوافر تلك الشروط، وإذ قضت محكمة أول درجة بإلحاق عقد الصلح المتضمن بنود عقد الزواج المنعقد بين المصرية والأجنبي بمحضر الجلسة وإثبات محتواه فيه وجعله في قوة السند التنفيذي دون مراعاة توافر الشروط التي استوجبها القانون، وهى من المسائل المتعلقة بالنظام العام، وإذ قضى الحكم المطعون فيه بعدم جواز الاستئناف يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه» (نقض 31 مارس 1992م، الطعن رقم 133 لسنة 58 القضائية، أحوال شخصية، مجموعة أحكام محكمة النقض، مدني، العدد الأول، السنة 43، رقم 115، ص 542).
وباستقراء تشريعات التحكيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، يلاحظ أن المادة الرابعة البند الثاني من القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 بشأن التحكيم تنص على أن «لا يجوز الاتفاق على التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح». وفي تطبيق هذا النص، درجت المحاكم على أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام. ففي حكم حديث لها، قضت محكمة تمييز دبي بأن «من المقرر وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام، وأن مقتضى نص المادة 4 من القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 بشأن التحكيم – أنه لا يجوز الاتفاق على التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح» (حكم تمييز دبي، 28 نوفمبر 2021م، الطعن رقم 623 لسنة 2021 طعن تجاري، لم ينشر بعد). وجدير بالذكر في هذا الصدد أن المادة الثالثة من قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر بالقانون رقم (5) لسنة 1985م، تنص على أن «يعتبر من النظام العام الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والميراث والنسب والأحكام المتعلقة بنظم الحكم وحرية التجارة وتداول الثروات وقواعد الملكية الفردية وغيرها من القواعد والأسس التي يقوم عليها المجتمع وذلك بما لا يخالف الأحكام القطعية والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية». بل إن بعض أحكام القضاء ذهبت إلى أن مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية تسمو على اعتبارات النظام العام فيما تعلق بما نظمته من أمور الأحوال الشخصية. وفي ذلك، تقول المحكمة الاتحادية العليا إن «من المقرر- في قضاء هذه المحكمة – ووفق نص المادة (3) من قانون المعاملات المدنية أنه (يعتبر من النظام العام الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والميراث والنسب ….) بما مؤداها أن كل أمر من أمور الأحوال الشخصية يقع مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية المنظمة له يدخل في نطاق النظام العام دون حصر، مشمولاً في هذه المادة عبارة – كالزواج والميراث والنسب لدلالتها على الشمول والتوسع بل إن مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية تسمو على اعتبارات النظام العام. كما أنه من المقرر أن للمحكمة أن تثير من تلقاء نفسها في الطعن الأسباب المتعلقة بالنظام العام عملاً بالمادة 178 من قانون الإجراءات المدنية متى كان عناصرها مطروحة عليها وتعلق بها الحكم المطعون فيه» (حكم اتحادية عليا، 23 يناير 2006م، الطعن رقم 89 لسنة 25 القضائية، مجموعة الأحكام الصادرة عن المحكمة الاتحادية العليا من دوائر المواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية والشرعية، السنة الثامنة والعشرون، 2006م، العدد الأول، من أول يناير حتى آخر مارس، رقم 7).
وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية لغير المسلمين، وتحت عنوان «التحكيم في مسائل الطلاق المدني وآثاره»، تنص المادة (52) من لائحة إجراءات الزواج والطلاق المدني في إمارة أبو ظبي، المعتمدة بموجب قرار سمو رئيس دائرة القضاء رقم (8) لسنة 2022م، على أن «1. ينشأ بالدائرة جدول خاص لقيد المحكمين في النزاعات الأسرية. 2. يصدر الوكيل القرارات الخاصة بشروط وضوابط وإجراءات القيد في الجدول. 3. يجوز للزوجين الاتفاق على التحكيم سواء بشكل سابق أو لاحق للنزاع الأسري عبر إسناد مهمة الفصل في النزاع إلى محكم فرد أو هيئة تحكيم ثلاثية من المحكمين المقيدين في الجدول. 4. تطبق الأحكام الواردة في القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 المشار إليه على الإجراءات الخاصة بالتحكيم في قضايا الأسرة».
وفي المملكة العربية السعودية، وطبقاً للمادة الثانية من نظام التحكيم، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 34) بتاريخ 24/ 5/ 1433ه، «مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفاً فيها، تسري أحكام هذا النظام على كل تحكيم، أياً كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع، إذا جرى هذا التحكيم في المملكة، أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجرى في الخارج، واتفق طرفاه على إخضاعه لأحكام هذا النظام. ولا تسري أحكام هذا النظام على المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية، والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح».
وفي دولة الكويت، تنص المادة (173) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، الصادر بالمرسوم بقانون رقم (38) لسنة 1980م، على أن «…. ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، ولا يصح التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في الحق محل النزاع». وفي تطبيق هذا النص، يتعين الرجوع إلى المادة (554) من القانون المدني الصادر بالمرسوم بقانون رقم 67 لسنة 1980م، والتي تنص على أنه «لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام، ولكنه يجوز على الحقوق المالية المترتبة عليها». وتعليقاً على هذا النص، ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون ما نصه «وأياً كان محل الصلح، فإنه يجب أن تتوافر فيه الشروط التي يجب توافرها في المحل بوجه عام، فيجب أن يكون موجوداً، ممكناً، معيناً أو قابلاً للتعيين، وبوجه خاص، أن يكون مشروعاً – أي حقاً يجوز الاعتياض عنه ولو كان غير مال ولذلك نصت المادة 554 من المشروع على عدم جواز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام، وعليه فلا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية – كالبنوة والزوجية – أو الأهلية، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالنظام العام وإنما يجوز الصلح على الحقوق المالية التي تترتب على هذه المسائل كالصلح على النفقة أو على مؤخر الصداق. وكل ذلك ما لم يقضِ القانون بغيره ففيما يتعلق بالقصاص أو التعزيز إذا كان حقًا للعبد، يصح الصلح عن دعوى الجناية في النفس من القتل وفيما دونها، عمدًا كانت الجناية أو خطأ. أما العمد فلقوله تعالي (فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) (البقرة 178)، أي من أُعطي له بدل أخيه المقتول شيء بطريق الصلح. وأما الخطأ فلأن موجبه المال». وتطبيقاً للنصوص القانونية سالفة الذكر، قضت محكمة تمييز الكويت بأن «من المقرر أن العبرة في التزام المحكمة حدود الطلبات المقدمة إليها هي بالطلبات الختامية التي أبديت أمامها بصورة صريحة جازمة تقرع سمع المحكمة، وأن النص في المادة (73) من قانون المرافعات على أن للخصوم أن يطلبوا من المحكمة في أية حالة تكون عليها الدعوى إثبات ما اتفقوا عليه من صلح أو اتفاق آخر بمحضر الجلسة ويوقع عليه منهم أو من ولائهم، ويكون لمحضر الجلسة قوة السند التنفيذي، وفي المادة (556) من القانون المدني على أن الصلح يحسم النزاعات التي يتناولها ويترتب عليه انتهاء الادعاءات التي ينزل منها أي من المتصالحين وفي المادة (554) منه على أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام ولكنه يجوز على الحقوق المالية المترتبة عليه مؤداه أن تصديق القاضي على الصلح – في غير المسائل المتعلقة بالنظام العام – ينحسم به النزاع، فلا يجوز لأي من المتعاقدين عليه أن يجدد هذا النزاع ولا أن يمضي في الدعوى التي كانت مرفوعة بما حسمه الطرفان صلحًا. لما كان ذلك، وكان الثابت بالأوراق أن الحكم الابتدائي وقد صدر وفقاً للطلبات الختامية لطرفي النزاع بإثبات ما اتفقا عليه صلحًا في شأن الحقوق المالية الناشئة عن علاقتهما الزوجية وبما لا يخالف النظام العام فإن الطعن عليه بالاستئناف يكون غير جائز، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر فإن النعي عليه بسبب الطعن يكون على غير أساس» (حكم تمييز الكويت، 18 يونيو 1994م، الطعن رقم 11 لسنة 1994م أحوال شخصية، كتاب رقم 22، ص 369).
وفي مملكة البحرين، كانت المادة (233) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، الصادر بالمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 1971م، تنص على أن «… ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح. ولا يصح التحكيم إلا ممن له أهلية التصرف في حقوقه، وذلك مع عدم الإخلال بما ينص عليه أي قانون آخر». ولكن، هذا النص ألغي بموجب المادة الثامنة من القانون رقم (9) لسنة 2015 بإصدار قانون التحكيم. وبالاطلاع على هذا القانون الأخير، نجده قد ورد خلواً من نص مقابل. وعلى كل حال، فإن المادة (498) من القانون المدني، الصادر بالمرسوم بقانون رقم (19) لسنة 2001م، تنص على أنه «لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، ولكن يجوز على الحقوق المالية المترتبة عليها».
وفي دولة قطر، ووفقاً للمادة السابعة البند الثاني من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية، الصادر بالقانون رقم (2) لسنة 2017م، «لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح». ومنظوراً للأمور على هذا النحو، ولتفسير هذا النص، يغدو من الضروري الرجوع إلى المادة (575) من القانون المدني، الصادر بالقانون رقم (22) لسنة 2004م، بنصها على أنه «لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، ولكن يجوز الصلح على الحقوق المالية التي تترتب على الحالة الشخصية، أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم».
وأخيراً، وفي سلطنة عمان، وطبقاً للمادة الحادية عشرة من قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (47) لسنة 1997م، «لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف في حقوقه، ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح». وتعليقاً على نص هذه المادة، يقول بعض الفقه إنه «لما كان للاتفاقيات والعقود، أياً كان موضوعها، محلاً يشترط فيه أن يكون موجوداً أو ممكناً ومعيناً أو قابلاً على الأقل ـللتعيين وأن يكون إضافة إلى ذلك مشروعاً، فإن لاتفاق التحكيم محلاً يتجلى مكانه في المسألة أو في مجموعة المسائل الواقعية التي تكون أو تمثل محل اتفاق الطرفين، والتي يود إنهاءها بطريق التحكيم، يجب أن تكون هذه المسائل من الموضوعات التي يجوز تسويتها عن طريق التحكيم. وبالتالي نفهم من ذلك أن هناك بعض المسائل والموضوعات التي لا يجوز فيها التحكيم وهذا ما بينته المادة (11) من القانون ذاته لقولها (…… ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح)، وبالتالي فإن المشرع هنا حدد إطاراً ونطاقاً عاماً للمسائل التي تكون محلاً للتحكيم وهي المسائل التي يجوز أن يعقد بشأنها الصلح، وما عدا ذلك من المسائل فتكون غير قابلة لتسويتها عن طريق التحكيم. وهذه المسائل إجمالاً هي: أولاً: المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية، فهي مسائل تتعلق بالشخص وأهليته وتنظيم الأسرة من خطبه وزواج وحقوق وواجبات الزوجين تجاه بعضهما البعض. وكذلك المنازعات المتعلقة بالمواريث والوصايا وغيرها من التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت. ثانياً: المسائل المتعلقة بالنظام العام. وهذه المسائل تأتي في مقدمتها والتي لا يجوز تسوية منازعاتها عن طريق التحكيم، المسائل المتعلقة بأعمال السيادة، وتلك المتعلقة بنزع الملكية للمنفعة العامة، وكذلك المسائل المتعلقة بالآثار والأموال التراثية والثقافية وغيرها التي تندرج ضمن المسائل المتعلقة بالنظام العام بمفهومه الواسع. والى جانب تلك المسائل فإنه لا يجوز التحكيم في المسائل الجنائية، وكذلك المسائل المتعلقة بإجراءات التنفيذ الجبري من حيث صحتها أو بطلانها، أو ما يتعلق بالدعاوى المتعلقة بتلك الإجراءات. إلا أن ما يجب ملاحظته، أنه وعلى الرغم من ذلك المنع، فإنه يجوز التحكيم في الحقوق المالية الناتجة عن تلك المسائل بحيث يجوز مثلاً التحكيم في التعويض عن قرار إداري صدر بالمخالفة لقواعد الإجراءات المتبعة في مسائل التعويض مثلاً أو لموضوعات متعلقة بالنظام العام» (يراجع: سالم الفليتي، القانون والناس: قراءة في قانون التحكيم العماني، جريدة الوطن، مسقط، 6 سبتمبر 2017م).