التحريات في القرآن الكريم
مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني
التحري في القرآن الكريم ليس مجرد وسيلة لجمع المعلومات، بل هو ركن أساسي في إقامة العدالة، وضبط آليات الوصول إلى الحقيقة بعيدًا عن الظنون والأحكام المتسرعة. فالقرآن لم يعرض التحري كفعل محايد، بل قدّمه في سياق مسؤولية أخلاقية وقانونية تستلزم التدقيق والتثبت قبل اتخاذ أي قرار قد يترتب عليه ظلم أو انحراف عن الحق. ولعل أبلغ تجسيد لهذا المعنى ما ورد في قصة هدهد سليمان عليه السلام، حيث قام هذا الطائر الصغير بمهمة استقصائية دقيقة، لم تقتصر على نقل المعلومة، بل تجاوزت ذلك إلى تحليلها وتصنيفها وتقديمها ضمن تقرير شامل استند إلى الملاحظة المباشرة، ما جعل موقفه أمام سليمان عليه السلام موقفًا يحمل في طياته الكثير من الدروس القانونية والإنسانية حول قيمة التحري وأثره في صنع القرار العادل.
الهدهد، رغم كونه طائرًا، لم يأتِ إلى نبي الله سليمان بخبر مقتضب، بل سرد تفاصيل دقيقة حول مملكة سبأ، شملت نظام الحكم، والقوة الاقتصادية، والبنية العمرانية، والديانة السائدة، مما يعكس نموذجًا متكاملًا للتحري الذي لا يعتمد على النقل السطحي، بل يقوم على جمع البيانات وتقديمها بشكل منهجي قابل للتحقق. فقد قال: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةًۭ تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾ (النمل: 23-24). هذه الآيات تكشف عن أن التحري لا يقتصر على رصد الظواهر، بل يتطلب تحليل السياق السياسي والاجتماعي والديني، وهو ما يجعل منه عنصرًا ضروريًا في عمليات البحث والتقصي التي يعتمد عليها القانون والقضاء للوصول إلى الأحكام العادلة.
التحري ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة للوصول إلى الحقيقة، وهذه الحقيقة لا ينبغي أن تكون محل ثقة مطلقة دون تمحيص، وهو ما يظهر جليًا في رد فعل النبي سليمان عليه السلام، حين قال: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ﴾ (النمل: 27). فالتثبت هنا ليس مجرد إجراء احترازي، بل هو تأكيد على قاعدة قانونية أصيلة، مفادها أن أي معلومة مهما بدت دقيقة لا تصبح ذات أثر قانوني إلا بعد التحقق من صحتها عبر وسائل موضوعية. وهذه القاعدة تتجلى في القوانين الحديثة، حيث يشترط في أي ادعاء تقديم أدلة واضحة وقاطعة قبل اعتماده كأساس لإصدار الأحكام. فالتحري القانوني لا يمكن أن يقوم على الظنون أو الأخبار غير الموثوقة، بل يحتاج إلى أدلة دامغة تدعم صحة الادعاءات وتبرر اتخاذ أي إجراء بناءً عليها.
إذا كان التحري ضرورة لإقامة العدل، فإنه في الوقت ذاته يخضع لقيود أخلاقية وقانونية تحول دون تحوله إلى أداة لانتهاك الحقوق. لذلك نجد أن القرآن الكريم يميز بوضوح بين التحري المشروع والتجسس المحرم، فيقول: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ (الحجرات: 12)، مما يؤكد أن البحث عن الحقيقة يجب أن يتم بوسائل مشروعة تحترم خصوصيات الأفراد وتصون كرامتهم. والتحري المشروع هو الذي يستهدف تحقيق العدالة دون تعدٍّ على الحقوق، كما فعل الهدهد عندما جاء بمعلومات يمكن التحقق منها، بينما التجسس المحرم هو ذلك الذي ينتهك الخصوصيات دون مبرر شرعي أو قانوني، وهو ما يتفق مع مبادئ القوانين الحديثة التي تمنع جمع المعلومات بطرق غير قانونية. فالتحري، وإن كان ضروريًا، إلا أنه ليس مبررًا لانتهاك القواعد الأخلاقية والقانونية التي تحفظ للناس حقوقهم وكرامتهم.
التحري في القرآن الكريم ليس مجرد عملية استدلالية، بل هو منظومة متكاملة تحكمها مبادئ التثبت والعدالة وحماية الحقوق. فمن غير التحري الدقيق لا يمكن التوصل إلى قرارات صحيحة، ومن غير الضوابط الأخلاقية والقانونية قد يتحول التحري إلى أداة للظلم والتعدي. وهذه الرؤية القرآنية للتحري تتوافق مع أسس العدالة الحديثة، التي تقوم على أن كل معلومة يجب أن تكون موثقة، وكل قرار يجب أن يستند إلى أدلة دامغة، وكل إجراء يجب أن يكون محكومًا بضوابط تحترم حقوق الأفراد وتمنع التلاعب بالحقائق. فالتحري ليس مجرد وسيلة لمعرفة الحقيقة، بل هو التزام بمنهج قوامه الدقة والإنصاف، مما يجعله أحد أهم أركان العدالة في كل زمان ومكان. والله من وراء القصد.