البلاغ الرقمي الكاذب

بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

تخيل أنك تجلس في بيتك مطمئنًا، فتتفاجأ بخبر ينتشر بسرعة البرق على هاتفك: فتاة تزعم أنها تعرضت للتحرش والسرقة في وضح النهار، أو منشور يؤكد أن أطفالًا خُطفوا من أمام المدارس، أو مقطع فيديو يتحدث عن فساد في توزيع الدواء والغذاء. قلبك يرتجف، مخاوفك تتضاعف، وربما تسرع بنشر ما وصلك لتُحذِّر غيرك، قبل أن يتبين بعد ساعات أو أيام أن القصة كلها محض افتراء. فهل كان الذنب فيمن اخترع الكذبة، أم فيمن صدّقها، أم في مجتمعٍ أصبح الكذب فيه أسرع انتشارًا من الحقيقة؟ لماذا يختلق بعض الناس وقائع لم تحدث؟ هل هو مرض نفسي؟ رغبة في جذب الانتباه؟ محاولة للانتقام من شخص أو مؤسسة؟ أم أن الدافع أبسط وأكثر إيلامًا: البحث عن كلمة تعاطف في عالم قاسٍ؟ ثم ماذا عن المجتمع الذي يتلقى هذه الأكاذيب: كيف يحمي نفسه من الانخداع، وكيف يوازن بين حق الإنسان في التعبير عن ذاته وبين واجب حماية الصدق والثقة العامة؟ والأهم: أين يقف القانون الجنائي وسط هذه الدوامة؟ هل يقف صارمًا لا يرحم، أم يحاول أن يفهم ويعالج؟

هذه ليست أسئلة عابرة، بل هي امتحان يومي لمصداقية منظومة العدالة برمتها. فالبلاغ الكاذب لم يعد ورقة تُكتب في قسم الشرطة، بل صار منشورًا على منصة اجتماعية، أو تغريدة قصيرة، أو مقطعًا مصورًا يمكن أن يراه الملايين في دقائق. وهنا تكمن الخطورة الكبرى: لم نعد أمام ضرر فردي محدود، بل أمام طوفان من المعلومات المضللة القادرة على هز ثقة الناس في أمنهم، في مؤسساتهم، بل في بعضهم البعض. وكم من إشاعة عن وجود عصابات خطف أو جرائم متكررة أشعلت الذعر بين الأسر، وكم من خبر كاذب عن فساد أو تقصير زعزع ثقة الناس في أجهزة الدولة، قبل أن تنكشف الحقيقة ويخبو اللهيب، لكن بعد أن خلّف وراءه قلقًا لا يُمحى بسهولة.

القانون الجنائي لطالما تعامل مع “البلاغ الكاذب” في صوره التقليدية: شخص يتقدم ببلاغ رسمي يتهم بريئًا، فيتحرك جهاز العدالة في مسار خاطئ، وتضيع حقوق وتُهدر جهود. لكن الفضاء الرقمي غيّر المشهد تمامًا. فاليوم، البلاغ الكاذب قد لا يُقدَّم أمام النيابة أو الشرطة، بل يُلقى في فضاء مفتوح يتلقفه العامة بلا تحقق ولا تدقيق، فتتشكل “محاكم افتراضية”، ويصدر الرأي العام أحكامه قبل أن تتحرك أي جهة رسمية. هذا التحول يكشف عن ثغرة تشريعية: هل تكفي النصوص التقليدية لتجريم البلاغ الكاذب، أم أننا بحاجة إلى أدوات قانونية جديدة تستوعب أثر الكلمة في عصر السرعة الرقمية؟

ومع ذلك، فإن العدالة ليست مجرد عقاب صارم. ثمة أبعاد إنسانية يجب أن تُؤخذ في الحسبان. فكثيرًا ما يكون الكذب انعكاسًا لهشاشة إنسانية: شخص محطم نفسيًا، وحيد، يبحث عن نظرة اهتمام أو كلمة تعاطف. هل من العدل أن نساوي بينه وبين من يختلق واقعة كاملة للإضرار بغيره أو لتحقيق مصلحة رخيصة؟! في التجربة الفرنسية، نلمح توجهًا نحو مراعاة الظروف الشخصية عند تقدير العقوبة، وفي بعض الأنظمة الأنجلوسكسونية نجد مساحات أوسع لتفعيل بدائل العقوبات، مثل الخدمة المجتمعية أو العلاج النفسي، حين يكون الفعل وليد الاضطراب أكثر منه وليد الإجرام. وهذا التوجه يكشف أن القانون ليس مجرد سيف قاطع، بل قد يكون يدًا تمتد لإصلاح الجرح ومعالجة الخلل.

ومن هنا، يظهر التحدي الحقيقي: كيف نوازن بين حماية المجتمع من الكذب والفوضى، وبين الحفاظ على إنسانية العدالة نفسها؟ إذا شددنا العقوبات بلا تمييز، قد نخنق تعبيرات ضعفاء يبحثون عن صوت أو تعاطف. وإذا تساهلنا تمامًا، نفتح الباب للفوضى والإضرار بالآخرين. هذه المعضلة تضع الفقهاء ورجال القانون أمام مسؤولية فكرية وأخلاقية عميقة، تجعلهم مطالبين بإعادة صياغة “فلسفة المسؤولية الجنائية” بما يتلاءم مع روح العصر، فلا يظل القانون حبيس الورق، بل يصير جزءًا حيًا من الدفاع عن الصدق والأمان والثقة.

وإذا كان السؤال الذي بدأنا به هو: كيف نحمي المجتمع من الكذب دون أن نسلب الفرد حقه في التعبير؟ فإن الإجابة تتضح شيئًا فشيئًا: الحماية لا تأتي من القسوة وحدها، ولا من التساهل وحده، بل من عدالة مرنة واعية، تعرف أن الكلمة قد تكون خنجرًا يجرح، وقد تكون بلسماً يداوي. مواجهة البلاغ الكاذب ليست مجرد شأن جنائي، بل هي مهمة ثقافية وأخلاقية تبدأ من التربية على قيمة الصدق، وتمر عبر إعلام مسؤول يزن الكلمة قبل نشرها، وتنتهي في قاعة المحكمة حيث يقف القاضي ليفصل بحكمة بين الوهم والحقيقة.

وفي النهاية، يظل جوهر القضية أن الصدق ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو خط الدفاع الأول عن استقرار المجتمع وأمنه. ومن ثم، فإن حماية الحقيقة واجب مشترك: يقوم به القانون بصرامته، والمجتمع بوعيه، والفرد بضميره. وما بين هذه “الأضلاع الثلاثة” يُكتب المصير: إما مجتمع يثق في كلماته وأخباره، وإما مجتمع ينهشه الكذب ويعصف به الاضطراب. وهنا، وفي هذه اللحظة الفاصلة، ندرك أن مواجهة الكذب ليست مجرد قضية قانونية، بل هي دفاع عن جوهر إنسانيتنا، وعن قدرتنا على أن نحيا معًا في عالم تقوم أركانه على الثقة لا على الوهم. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى