البداية والنهاية عدل
بقلم: محمد حسني السرساوي
إنها رسالة مقدسة إنها رسالة الدفاع، عندما تقف بجوار متهم بريء لم تثبت إدانته ، لتدافع عنه بعد ان هجره أهله، وتنكر له أصدقاءه، وتشمت به أعداءه، وانصبت عليه لعنة الناس أجمعين، تقف بجانبه وسط صخب الإعلام، حتى يحين اليوم المعود، فتدخل قاعة المحكمة تترقبك الأنظار وسط همز ولمز، فتبدأ المرافعة وكأنها معركة في ساحة القضاء ، تجلجل بصوت الحق حيث لا صوت إلا صوتك، لتتفنن في المرافعة، تشد العقول بالقول المقبول، تلهب القلوب بحلاوة اللسان وسحر البيان، تبهر السامعين والناظرين بكلمات تبث الامان في قلب المتهم الحيران، لا تغيب عنك فكرة ولا يتعثر لك لسان، لا أنت بساحر ولا جان ، وإنما أنت إنسان أنت المحامي ، الذي لا يتخلى عن أي متهم مهما كان ، وكلما زاد صراخ الصارخين كلما كانت حاجة المتهم إليك اشد وأقوى ، انت محامي .. اذن انت تعمل في مهنة الجبابرة.
المحاماة ثقافة شاملة :
يخطئ من يظن أن مؤهلات المحامي هي فقط الحصول على شهادة حقوق أو الدكتوراة في القانون ، كما يخطئ من يعتقد أن صناعة المحامي هي الثرثرة ، إذ ان المحامي الشاطر ، يعكف على دراسة كل العلوم والآداب طوال حياته ، حتى يستطيع الاضطلاع بمهمة الدفاع في القضايا المختلفة ، التي يوكل إليه أمرها ، من مدنية وتجارية وجنائية وسياسية وإدارية ، وما لم يكن المحامي مطلعًا على شتى العلوم والفنون ، ومختلف القوانين والقرارات وكتب الشراح وأحدث الأحكام ، فإنه يجد نفسه عاجزًا عن القيام بواجبه.
يوميات محامي :
المحاماة أشق مهنة في العالم، لانها تستهلك كل طاقته ، وهي لا تدع له وقتًا للراحة ، فهي مهنة العمل المتواصل ، حيث يبدأ المحامي عمله في ساعات الصباح الباكر ، في أداء واجبه أمام مختلف المحاكم ، متنقلاً بين محكمة وأخرى ، ومن قاعة لأخرى ، وفي النيابات والمخافر ، والتي قد تطول ساعاتها حتى ما بعد الظهر.
فإذا عاد المحامي إلى منزله مكدودًا محطم الأعصاب ، لا يكاد يجد وقتًا لتناول الطعام ، إذ يتعين عليه أن يخاطب الموكلين ، وينقل لهم ما تم انجازه لمصلحتهم ، واخطارهم بالاحكام الصادره ، وشرح مضمونها والية تنفيذها، ثم يعود إلى مكتبه لاستقبال موكليه ، حيث يقضي مسائه في تفهم ما يعرض عليه من مشكلات، والإفتاء فيما يستشار فيه من منازعات، وتدوين ملاحظاته عما يعهد به إليه من قضايا، حتى إذا ما انتهى من هذا العمل المضني الذي يتخلله إزعاج رنين التليفون ، ومضايقات بعض الموكلين ومساوماتهم ، او ثرثتهم باعصاب بارده دون احساس بالارهاق الذي يعانيه المحامي ، الذي يتعين عليه أن يسهر ليله لدراسة قضايا ، وتحرير المذكرات ، وإعداد الدفاع والمرافعات فيها ، مستعينًا بالمراجع والكتب ، فهو عمل متواصل قل ان شئت دوام ثلاث شفتات في يوم واحد ، فهو مضطر لذلك ، التزاما بالمواعيد القانونية المحددة للجلسة او للاستئناف وغيرها، وإلا تعرض للمسؤولية في حالة التأخير.
والموكل لا يرحم والقاضي لا يعذر، والمحامي فوق هذا وذاك مسئول أمام ضميره عن أداء واجبه على الوجه الأكمل، ولهذا فهو يقضي الليل ساهرًا باحثًا منقبًا، حتى إذا ما أتم عمله وأرضى ضميره آوى إلى فراشه ليقضي ما بقي من الليل مسهدًا يستعرض أعمال اليوم ويفكر في مشكلات الغد.
هذا موجز للعمل اليومي للمحامي، ومنه يتضح أن المحامي كالشمعة يحترق ليضيء للآخرين، ومع ذلك فكثيرًا ما تقابل جهوده وتضحياته الغالية بالجحود ونكران الجميل من جانب الموكلين ، الذين ما أن يكسبوا قضاياهم حتى يتنكروا لمحاميهم، رغبةً في إهدار حقوقه بعد أن حصل لهم على حقوقهم المهضومة !!
لذلك كانت المحاماة من أشق المهن ، وأكثرها إرهاقًا للعقل والجسم والأعصاب، حقًا إن المحامي ينعم بشيء من الاستقلال والحرية وقد يصيب بعض الجاه، وهو ما يحسده عليه الكثيرون ناسين أن ذلك يكون دائمًا على حساب راحته وصحته وأعصابه، وأحيانًا يدفع المحامي ثمنًا لتلك الحرية وذلك الجاه صحته بل وحياته نفسها في سن مبكر.
لذلك قال الفقيه الفرنسي جارسونيه في وصف حيات المحامي :
( إن المحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة في دعاوى مختلفة ، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقة عملائه ، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفف من أعباء مشاكله وهمومه ، ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة إلا ليعالج مذكرات أطول ، فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف متاعب الآخرين ، وأستطيع القول إنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية ).