الاستعداد للمحبة بين الظهور والاختفاء (1)

الاستعداد للمحبة بين الظهور والاختفاء (1)

نشر بجريدة الوطن الجمعة 5 / 2 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في أعمق أعماق الآدمي؛ استعداد للمحبة محلُّ للشعور والوعي، وأحيانًا الفهم والتأمل بل والتدين.. وهو استعداد يقبل الانكماش والاتساع والانحصار والانتشار والتقلص والتمدد.. نجده في الأسرة والجيرة والصداقة والاشتراك والانتماء، وفي وجود اللغة والعادات والتقاليد والأعراف، وفي قيام النجوع والقرى والبلدان والمدن والأقطار وجماعاتها ورئاساتها ونظمها وشرائعها ودولها وحضاراتها . لأن ذلك كله نتاج استعدادات الآدمي منفردًا ومجتمعًا.. ومنها المحبة السائدة فعلاً أو افتراضًا . وهذه مهما تقلصت لا تنمحي.. وتقلصها ـ إن تقلصت ـ تدريجي يلازم نمو العادات الأنانية وانكباب الآدمي على تفضيلها وإيثارها ومن ثم تضييقه الوجود الواسع شيئًا فشيئًا.. بحيث لا يعود الآدمي قادرًا على الالتفات لغير تلك العادات التي تحصره هو ومن ينقلها عنه أو يشاركه في سجنها.. لأن اعتياد تلك العادات لا يكون إلاَ مع الاستخفاف بالآخرين واحتقار شأنهم وعدم المبالاة بهم ولا بمتاعبهم ولا بما يصيبهم وتجاهل دورهم في الوجود، أو مع إساءة الظن وفقدان الثقة بالناس، أو مع فورة الطمع والجشع والنهم.. هذه الأنانيات التي تحجب عن العين والعقل والقلب ـ تحجب رؤية حقوق الغير ومصالح الآخرين المشروعة، وهذه الدوافع قد توجد معًا في ذات الوقت وذات البيئة دون أن تحفل بها البيئة إذا ما كانت الظروف العامة للبيئة ـ مناسبةً لحاجاتها ومطالبها لا تشكو ضيقًا ولا تختنق بأزمة .

أما إذا تعرضت البيئة للمعاناة الشاملة من ضيق مستحكم أو من أزمة خانقة؛ فعندئذ تهيج تلك الدوافع الأنانية وتنتشر في الجماعة وتسرى فيها سـريان النار في الهشـيم، فلا تجـد في غالبية الناس إلاَّ خائفًا لا يعنيه ولا يهمه إلاَّ النجاة بنفسه وماله وأهله، أو غشوماً هجاماً غارقاً في فرص التحطيم والسطو والسلب والنهب، أو جشعًا تضاعف سعاره بزيادة فرص الاغتنام والإغراق في الجشع مع تزايد عدد الجشعين إلى غير حد وفي جميع المستويات والطبقات !

وأول من يشعر بوقع الضيق والأزمات، هم عامة الناس وسوادهم الذين ينهكهم هم وأسرهم التعطل وانقطاع الرزق والموارد المحدودة التي يحصلون عليها من أعمالهم وأشغالهم، وذلك يملؤهم ـ بطبيعة الحال ـ بمشاعر الضيق والظلم والاعتراض والحقد على الحكم والحكام والنظم، وعلى عموم الأغنياء ومن أثروا وراجوا بفضل الأزمات واستغلالهم لها في الإثراء والمزيد منه، وينمى لديهم ـ لدى الفقراء والمطحونين والمهمشين ـ ينمى لديهم الاعتقاد بأن الضيق الذي يعانون منه، ويقيمهم ويقعدهم، لا يزيله ولا يمكن أن يزيله إلاَّ تدمير ذلك كله أياً كانت آثاره وتبعاته.. وعندئذ يبدو أن الناس قد فقدوا استعداد الآدمي للمحبة.. وهذا تصور كاذب وغير صحيح فلا ينتهي ولا ينمحي تمامًا الاستعداد للمحبة.. لأن تغير آرائنا وعواطفنا تبعاً لظروفنا وأحوالنا؛ هو أيضاً ثمرة ما لدينا من استعدادات.. وقد يغطى نشاط استعداد ما ـ على عمل استعداد غيره، وقد يحجبه ولكنـه لا يمحوه من الوجود.. وقد ينتهى النشاط الذي غطى أو يفتر ويسمح لغيره من الاستعدادات بالظهور والعمل.. وهو ما يحدث حين يشعر عامة الناس بانتهاء الأزمة وعودة الرخاء، أو حين يشعرون بأن الأزمة قد اشتدت وشملت الجميع وأذلت بصفةٍ عامة ـ الكبار والأثرياء.. فيبالغون في الرثاء لهم والعطف عليهم إذا استُجيب للاستعداد الفطري للمحبة فرحين بظهوره والعمل به.. هذا لأن ترقى الآدمي وتطوره أولاً وأخيراً، هو ثمرة نجاحه في تطوير استعداداته القابلة للتطوير ونماء استعداداته التي كانت تخدمه وتنفعه حال همجيته وتخلفه.. وقد نجح الآدمي في إخماد الكثير من السلوكيات الفاضحة التي كانت تصادر الأرزاق أو تستجلب الازدراء والاحتقار، ولم ينجح بعد في تطوير الكثير من استعداداته الأخرى لغلبة انحيازه لذاته على حساب الآخرين وقلة أو انعدام اكتراثه بغيره ممن لهم حقوق مماثلة لحقوقه ومصالح مكافئة لمصالحه أو أولى منها بالالتفات إليها .

وقد سوَّغ للآدمي استمرار الإفحاش في الأنانية أو إدمانها ـ أنه غالبًا قابل للستر والإخفاء عن عيون غالبية الناس، وقابل للتسويغ عند من بيدهم مقاليد الأمور من تملق أنانيتهم وممالأتهم بما يرضيهم . وهكذا تتضافر أنانيات الحاكم وبعض محكوميه، والمتبوع وبعض تابعيه، على إخفات صوت الاستعداد لمحبة الغير وإعاقة ارتفاعه والحيلولة دون انتشاره والاستجابة له، وذلك من أجل منافع خاصة دائمة أو يرجى أن تدوم وهى بالتأكيد لن تدوم، فلا شيء يدوم.. وهذا سلوك تفشى يقلده ألوف وألوف الألوف بلا جدوى تذكر، وينتهي الأمر حتمًا بالجميع إلى أزمات لا ينقطع تواليها، وأحيانًا إلى كوارث لا سبيل لتفاديها!!!

إن تزاحم الاستعداد في الكائن الحى، واقع مشهود.. وهو يخضع خضوعًا يكاد يكون تامًا بحكم العادة والاعتياد، ولذلك يجب التفطن لتحكم العادات في الآدمي، الحسن منها والقبيح.. فالعادات السيئة القبيحة أو الضارة، يجب مقاومة الاعتياد عليها والإقلاع

عنها، والالتقاء مع أذواق الجماعة وأخلاقياتها في رفضها لهذه الأنماط السلوكية التي لا ترتضيها، وتكريس الاعتياد على كل ما هو حسن والتشجيع على الالتزام به وتقليده ومحاكاته.

والاستعداد لمحبة الغير، وإن كان يبدو الآن محمودًا في كل الجماعات الإنسانية، إلاَّ أنه يقتضى التضحية باستعدادات أخرى أكثر خلطة وأطوع للغرائز الأولية البدائية.. هذه البدائيات بالغة القدم التي صاحبت إيجاد الآدمي على الأرض وكفلت بقاءه دهورًا بالغة الطول في كفاحه الذي لم ينقطع مع بقية زملائه في عالم الأحياء إلى أن استقرت له السيادة الحالية.. هذه السيادة التي ما زالت للآن تعلى في نظره شأن الغلبة والسيطرة والسطوة لنفسه كفرد ولجماعته كجماعة، برغم ما جرّت وتجرّ عليه تلك النظرة الغشوم من ويلات لا آخر لها، ملأت تاريخه القديم والحديث، وما زالت تغشى حياته للآن مهددةً حاضره ومستقبله بأفدح الكوارث والأخطار !

لم تفلح الديانات والأنبياء على ما قدموا، ولا رؤية الحكماء وأهل الإخلاص والأمانة والعلم على ما بذلوا ـ لم تفلح في إزالة سيادة تلك النظرة التي تسود إلى اليوم نفوس وعقول الأقوياء من الأفراد والجماعات، وتسود رؤاها وأحلامها وأطماعها ـ تسود كذلك نفوس وعقول الضعفاء من الأفراد والجماعات !

وبرغم تزايد ارتفاع الأصوات بالإشادة بالاشتراكية وطلب المزيد من الحقوق للأيدي العاملة منذ النصف الثاني من القرن قبل الماضي وحتى الآن ـ إلاَّ أن الناس لم تكف في كل مكان عن نشدان الثراء الشخصي في الخفاء أو علانية كواقع تبلغه الأقلية أو بوسعها أن تبلغه، وهو مطلب ملحّ متسلط على عقول وآمال أغلبية الناس، ويحوط كل مساعيهم وأحلامهم ويخالط مساعيهم في كل سوق وكل مجال، يحدوهم أن الثراء تميز يعطى من يناله تمييزًا خاصًّا يستحيل أن يشمل عامة الخلق أو يتهيأ ويتيسر بسهولة لسواد الناس . لأن هذا الثراء لا يتحقق ـ إن تحقق ! ـ بمجرد الإفلات من وقع وأوضار الاحتياج والفاقة، ولا حتى ببلوغ درجة الأوساط المستورين أو الواقفين على أعتاب أول السلم إلى الثراء، وإنما يتطلع هذا الثراء الذي يتطلع إليه طلابه ـ إلى مرتبة أعلى وأقوى في نظر الجماعة . تتمتع بإجلال الناس تبعاً لإجلالهم للثراء وإيمانهم بتسلط المال وسلطانه وتصدر المال جدول القيم !!

زر الذهاب إلى الأعلى