الاحتيال الهاتفي 

 بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني 

هل يمكن أن يسرقك أحد وأنت في بيتك، دون أن يراك أو يلمسك؟ وهل يمكن لمكالمة هاتفية قصيرة أن تفتح الطريق أمام لص محترف ليصل إلى أموالك، ويستولي عليها بإرادتك وأنت تظن أنك تحميها؟ وهل يمكن لصوت وديّ أن يتحول، في دقائق، إلى أداة تشل قدرتك على التفكير وتدفعك لاتخاذ قرارات لا تعكس حقيقتك؟

الإجابة المؤسفة: نعم. الاحتيال الهاتفي باسم البنوك لم يعد جريمة فردية عابرة، بل هو أسلوب إجرامي منظم يعتمد على ما يعرف في علم الجريمة بـ”الهندسة الاجتماعية” (Social Engineering)، وهي القدرة على استغلال المعلومات المسبقة عن الضحية وتطويعها لإقناعه بخطوات تبدو منطقية لكنها في الحقيقة طريق مباشر إلى تسليم أمواله.

على سبيل المثال، في مصر خلال عام 2024، أعلن البنك المركزي المصري أن عدد الشكاوى المتعلقة بالاحتيال عبر الهاتف ووسائل التواصل ارتفع بنسبة ملحوظة، مع تكرار سيناريو واحد: مكالمة يدعي فيها المحتال أنه موظف بنك، يذكر بيانات حقيقية للعميل حصل عليها من مصادر غير مشروعة، ويختلق أزمة عاجلة (مثل تجميد الحساب أو خصم غير مصرح به)، ثم يطلب “تحديث البيانات” أو “إعادة تنشيط الحساب” عبر إرسال أكواد سرية. في فرنسا، أصدرت Banque de France تحذيرًا مشابهًا في 2023 بعد سلسلة من المكالمات الاحتيالية التي استهدفت كبار السن، حيث قُدّرت الخسائر بملايين اليوروهات نتيجة تحويلات تمت إلى حسابات وسيطة خارجية قبل أن تُسحب فورًا. أما في بريطانيا، فقد أشار Action Fraud- المركز الوطني للإبلاغ عن الاحتيال- إلى أن جرائم الاحتيال الهاتفي المصرفي كلفت البريطانيين أكثر من 485 مليون جنيه إسترليني في عام 2022 وحده، مع ملاحظة أن معظم الضحايا كانوا فوق سن الخمسين.

من الناحية القانونية، يتعامل المشرع المصري مع هذه الجريمة تحت مظلة المادة (336) من قانون العقوبات، التي تعاقب على الاستيلاء على مال الغير بالاحتيال أو انتحال صفة كاذبة، بالإضافة إلى المواد (22) و(27) و(30) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، والتي تجرم الاستيلاء على بيانات أو حسابات بنكية أو استخدامها بغير حق. في فرنسا، يعاقب القانون الجنائي الفرنسي (Code pénal) على النصب (Escroquerie) وفق المادة 313-1، بالسجن حتى خمس سنوات وغرامة تصل إلى 375,000 يورو إذا تم الاحتيال باستخدام وسائل تقنية أو عبر استغلال ضعف الضحية. وفي بريطانيا، يندرج الاحتيال الهاتفي المصرفي تحت Fraud Act 2006، المادة 2 المتعلقة بالاحتيال بالتمثيل الكاذب (Fraud by false representation)، مع عقوبة تصل إلى السجن عشر سنوات.

البعد الاجتماعي والنفسي لهذه الجريمة لا يقل خطورة عن الجانب القانوني. المحتال المحترف يختار ضحاياه بعناية، مستهدفًا الفئات الأقل وعيًا بالوسائل التقنية، وخاصة كبار السن، مستخدمًا أسلوب “التصعيد النفسي”- بدءًا بحديث مطمئن، ثم الانتقال إلى التهديد المبطن، وأخيرًا خلق شعور بالاستعجال الذي يحرم الضحية من التفكير المنطقي أو طلب المشورة. هذه الديناميكية تفسر كيف يصبح الضحية “شريكًا غير واعٍ” في الجريمة، فيمنح المحتال البيانات اللازمة لإتمام التحويلات المالية.

اقتصاديًا، الأثر يتجاوز الضحية الفردية، إذ ينعكس على ثقة الجمهور في النظام المصرفي. فقد أظهرت دراسة للمفوضية الأوروبية في 2023 أن 18% من العملاء الذين تعرضوا للاحتيال المصرفي توقفوا مؤقتًا عن استخدام القنوات الرقمية، مما أبطأ من خطط التحول الرقمي للبنوك. وفي مصر، تؤدي هذه الجرائم إلى زيادة الضغط على أنظمة التعويض والمتابعة البنكية، وإلى ارتفاع تكاليف الاستثمار في الأمن السيبراني.

الوقاية هنا مسؤولية مشتركة. على الأفراد الالتزام بالقاعدة الذهبية: البنك لا يطلب بياناتك السرية عبر الهاتف أبدًا. وعلى المؤسسات المصرفية الاستمرار في برامج التوعية المستمرة، ليس فقط عبر الإعلانات، بل من خلال ورش عمل عملية تحاكي سيناريوهات الاحتيال، خاصة للفئات الأكثر عرضة.

في النهاية، الاحتيال الهاتفي هو جريمة تستهدف “العقل قبل المال”، وتنتصر في اللحظة التي يفقد فيها الضحية يقظته. والخط الفاصل بين الأمان والخطر هو وعي الإنسان وإدراكه أن حماية بياناته هي خط الدفاع الأول، قبل أي نظام أمني أو نص قانوني. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى