
الاتجار بالوعي البشري
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن يُختطف الإنسان دون أن يُمس جسده؟ وهل يمكن أن تتحول قناعات الفرد، وميوله، وخياراته، ورؤيته للعالم، إلى مجال استثمار وسيطرة؟ وهل يمكن في زمن التكنولوجيا أن تنتقل الجريمة من مساحة الجسد إلى مساحة العقل، فيصبح (الوعي) نفسه سلعة تُباع للمؤثرين وأصحاب النفوذ؟ ثم أين يقف الحد الفاصل بين الإقناع المشروع والهيمنة الخفية؟ وهل من الممكن أن نفقد حريتنا الداخلية ونحن نظن أننا أكثر الناس حرية؟ هذه الأسئلة أصبحت جزءًا من واقعنا اليومي، حيث تتراجع الحدود بين الحقيقة والتأثير المصنوع، وبين الإرادة الحرة والإرادة التي يتم تشكيلها على نحو غير مرئي. هنا يتجلى مفهوم (الاتجار بالوعي البشري)، وهو مفهوم يوازي في خطورته الاتجار بالبشر التقليدي، وربما يفوقه، لأنه يمس جوهر الإنسان لا جسده فحسب.
إن الوعي هو المساحة التي يختزن فيها الشخص قيمه، وضميره، ومبادئه، وخبراته، وخياراته الأخلاقية. وإذا كان الجسد هو الواجهة التي تظهر عليها آثار الاعتداء، فإن الوعي هو الواجهة التي تختفي عليها آثار التلاعب. ولهذا كان الاتجار بالوعي أكثر خطرًا، لأنه يجري في الظل، ويمتد أثره إلى ما هو أعمق من الجسد: إلى البنية النفسية والإدراكية التي يحدد من خلالها الإنسان موقعه في العالم. وما يضاعف خطورته أنه لا يُمارس عبر الإكراه التقليدي، بل عبر تقنيات ناعمة تتسلل إلى العقل دون مقاومة، وتعيد تشكيل رغبات الإنسان بينما يظن أنها رغباته الحقيقية.
فالمشهد المعاصر يُظهر أن من يمتلك أدوات تحليل البيانات يمتلك القدرة على اختراق الوعي؛ ومن يمتلك القدرة على توجيه الانتباه يمتلك القدرة على صناعة القناعة؛ ومن يمتلك القدرة على صناعة القناعة يمتلك القدرة على توجيه السلوك. وهكذا يتحول الإنسان إلى موضوع للاستثمار الفكري والمعرفي، ويصبح وعيه مادة خام داخل سوق واسعة وغير منظورة، سوق تديرها شركات تكنولوجية عملاقة، وجماعات أيديولوجية، ومنصات إعلامية تمتلك القدرة على صياغة العالم داخل عقل المتلقي.
وليس الاتجار بالوعي ظاهرة تقنية فحسب، بل هو ظاهرة اجتماعية ونفسية وقانونية في آن واحد. فهو يستغل حاجة الإنسان إلى الانتماء، وحاجته إلى الاعتراف، ونزوعه الفطري لمعرفة الحقيقة. وعبر هذا الاستغلال، يصبح العقل ساحة لمعركة غير متكافئة، بين فرد محدود القدرات الإدراكية، وأنظمة تحليلية ضخمة مدعومة بالبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. ومع كل محتوى موجّه، ومع كل خوارزمية تعيد ترتيب أولويات الفرد بدون إذنه، تتراجع مساحة الإرادة الحرة، وتتقدم مساحة الإقناع المصنّع.
وتتجلى خطورة الاتجار بالوعي حين يتحول من تأثير فردي إلى تأثير جماعي. فعندما تُصمم رسائل إعلامية أو سياسية تستهدف ملايين الأشخاص في وقت واحد، وتُضبط وفق نقاط ضعفهم النفسية وسلوكهم الرقمي، يصبح المجتمع نفسه عرضة للتفكك، ويصبح المزاج العام قابلًا للتوجيه وفق مصالح فئة ضيقة. وهنا لا نتحدث عن مجرد رأي عام، بل عن رأي عام مُصنّع. وهذه القدرة على صناعة الاتجاهات تنقل الظاهرة من استغلال فرد إلى استغلال مجتمع بأكمله، بما يهدد السلم الاجتماعي، ويقوض الثقة في المؤسسات، ويفتح الباب أمام تآكل الهوية الوطنية والقيم المشتركة.
وتبدو المعضلة أكبر لأن الضحية في هذه الجريمة لا تشعر بأنها ضحية. فمن يتعرض لجريمة الاتجار بالبشر يدرك أنه مقهور ومسلوب الإرادة، بينما ضحية الاتجار بالوعي يظن أن الأفكار التي زرعت فيه هي أفكاره الأصيلة. ومن هنا يظهر الطابع الأكثر قسوة لهذه الظاهرة: إنها ليست جريمة تُمارس ضد الجسد، بل جريمة تُمارس عبر استبدال العقل بعقل آخر. والإنسان الذي يفقد جسده يبقى إنسانًا يمكن إنقاذه، أما الإنسان الذي يفقد وعيه فلن يعرف أنه يحتاج إلى الإنقاذ أصلًا.
ولأن القانون وُضع أساسًا لحماية الإنسان من الاعتداء على حريته وكرامته، فقد أصبح لزامًا تطوير المنظومة القانونية لتشمل حماية الوعي من الاستلاب والاستغلال. فالمشرّع، مثلما وضع نصوصًا تجرّم الاتجار بالبشر، عليه أن يدرك أن الاتجار بالوعي يمثل خطرًا مشابهًا، وأنه لا يقل تهديدًا للإنسان والمجتمع والدولة. فالتقنيات الرقمية اليوم قادرة على التأثير على القرار السياسي، وعلى تشكيل الاتجاهات الانتخابية، وعلى التأثير في السلوك الاقتصادي والاستهلاكي، ومع غياب إطار تشريعي واضح، يتحول الوعي إلى منطقة بلا حماية، مفتوحة لكل من يملك القدرة على التلاعب.
وهنا يظهر دور القضاء كحامٍ لجوهر الإرادة الإنسانية، ودور الدولة كضامن للحرية الداخلية للمواطن، ودور التعليم والثقافة في بناء عقل نقدي قادر على المقاومة. فالمعرفة لم تعد مجرد وسيلة للترقي الاجتماعي، بل أصبحت الدرع الأولى في مواجهة هذا النوع من الجرائم. والمجتمع الذي لا يمتلك مناعة معرفية يصبح فريسة سهلة للاتجار بالوعي، مهما بلغت قوته الاقتصادية أو السياسية.
وفي النهاية، يبقى الاتجار بالوعي علامة فارقة على مرحلة جديدة من تاريخ الإنسان، مرحلة تنتقل فيها الجريمة من الجسد إلى الروح، ومن اليد إلى الفكرة، ومن العنف المادي إلى العنف المعنوي الناعم. وهي جريمة لا يمكن مواجهتها إلا بفهم عميق لآليات عملها، وإدراك شامل لخطورتها، وإرادة جماعية لصياغة منظومة تحمي الإنسان من أن يتحول وعيه إلى سلعة. فحماية الوعي ليست حماية لفكرة، بل حماية لإنسان. وحين ندرك ذلك، نكون قد عرفنا أن معركة الوعي هي آخر معارك الكرامة الإنسانية، وأن الانتصار فيها هو صون الإنسان من أخطر أشكال الاستلاب في عصرنا الحديث. والله من وراء القصد.