الإيمان بين العقل والوجدان

الإيمان بين العقل والوجدان

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 17/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا مراء في أن الإيمان دائرته الأساسية القلب والوجدان، بيد أن الإيمان، كذلك التديّن، لا يستغنيان عن العقل، ولا عن البصيرة النافذة المدركة.

وظني أنه يتوجب علينا ألاّ ننسى أن عواطفنا تعيش على ميلنا إلى الإيمان المريح، وهو دائما مبنى على الاعتقادات ووجهات نظر دينية أو أخلاقية أو سياسية أو علمية أو اجتماعية أو أسرية.

وهذا الإيمان بشيء ما لا تخلو منه نفس بشرية، يعطينا راحة التسليم والكف عن الانشغال والقلق. وهذه الراحة تساوى عندنا وتزيد – على العناء الذي نكابده في استمرار البحث والتحقيق والتمحيص العقلي.. فهو من هذه الزاوية ينقذنا من حيرة العقل وشكوكه وتمرده على الغيب.. وهو أيضا سهل الانتشار واجتذاب المرافقين والأنصـار والأتباع، وتوفير المحيط الذي يفسح لنا مجال الحركة الميسرة الموالية والمواتية، وفرصة الإنشاء والبناء..

وللإيمان دوره في وجود الحضارات، وبالعكس يكون للاعتقاد في العقائد الملبوسة دور في الفتن والقلاقل والحروب.. لأننا بالغين ما بلغنا من المعرفة والفهم والتطور والرقى، لم نتخل عن الانصياع للعواطف والانزلاق في تياراتها إيجابا وسلبا !

ويدين تقدمنا وتطورنا بالكثير للإيمان الصادق الصحيح الذي يدفعنا إلى المثابرة والإصرار على العمل والإتقان، والرضا ببذل الجهود وأحيانا بالمخاطرة بالحياة نفسها وببذلها.

فالإصرار والمثابرة على العمل الجاد فيهما دائمًا دافع إيماني بشيء قد لا نعيه، لكنه موجود وباق يؤدى مهمته في صمت. قد نفخر بنتائج أعمالنا وبما كلفتنا من عناء ومشقة، لكن لا نتذكر القوة الداخلية الدافعة المتمثلة في إيماننا العميق بشيء معين اعتنقناه وأطعناه بلا أي تردد أو مناقشة.

وتصعيد الإيمان بهذا الشيء المعين، إن جاز التعبير، إلى الخالق ـ جل وعلا ـ خطوة ترقٍّ.. ليس فقط في إنجـاز هذا أو ذاك من أعمالنا، وإنما في غاياتنا وأغراضنا ومقاصدنا.

وتعلقنا بالقيم العامة، هو ضرب من الإيمان، يحفزنا ويقود كلاًّ منا في مواقفه وتصرفاته وذلك دون أن نعرف بالدقة ما هي فحوى هذه القيمة، لأننا في صدد إيمان لا في صدد واقع يفتقر إلى معرفة كاملة لشيء معين !

كثير لا يفكرون في ماهية الوطنية والعدالة أو العدالة الاجتماعية، أو في معنى حقوق الإنسان أو الحرية الشخصية أو حق الجمهور في المعرفة بالشئون العامة، أو حقه في التعليم، أو الحق في الحصول على مستوى كاف ولائق لحرياته، أو في مدلول الحق في المساواة وفي الديمقراطية، أو مدلول الاشتراكية أو مشروعية الملكية الفردية، أو كفالة حرية التنقل، وحرية التعبير عن الرأي، أو في حرية التجارة وحرية الهجرة، إلى غير ذلك مما يعتبره الناس من القيم الأساسية في حياة الأفراد والشعوب.

كل هذه إيمانيات نعيش بها وعليها.. لا يعلل إيماننا بها ما يحيط بها من غموض وإبهام وعدم تحديد. وهذه تفسح المجال للخلط وإساءة الفهم والتأويل، وقد تؤدى إلى حدة الاختلاف والتعصب والخصومات والفتن والحروب وما وراءها من أغراض ومقاصد !

فالصلات البشرية، ذات أساس إيماني، معرض في كل وقت لذلك الخلط وإساءة الفهم والتأويل والاختلاف والتعصب، ومصير تلك الصلات دائما في كف الاحتمالات والمقادير!

هذه ظاهرة مشتركة متفقة مع أصول حياة الأحياء جميعا، هذه الحياة التي يدخلها البشر وغير البشر تسللا ويخرجون منها قسرا بلا مشيئة ولا مدخل لعقولهم وتعقلهم في ذلك الدخول أو الخروج !

ويبدو أن ظهور عقل الآدمي يحتاج إلى خارج وإلى تعامل مع هذا الخارج، وبقدر اتساع هذا التعامل يتسع بنموه نمو المخ ونمو العقل الذي يحصل في وصاية الغرائز والعواطف والذاكرة!

وهذا هو الذي يفسر خضوع عقولنا لذواتنا، ومطالبها وغرائزها وعواطفها ومتوارثاتها، ويتوقف تقدم العقل وتطوره على تحرك هذه الوصايات الفطرية، برغم ما تحمله من ماضيها الطويل وضعف قدرتها على التفطن والتبصر وحاجتها الدائمة إلى ما يعينها على هذا الضعف.. خاصة إذا لوحظ أن استعداداتنا العقلية والشعورية وذاكرتنا ومخيلتنا لا تعمل معا دائما، بل تتسابق إلى العمل لوقت يقصر أو يطول تنتظر بعده ناتج عمل كل منها، هذا الناتج الذي قد يكون حصاد هذا أو ذاك من هذه الاستعدادات، أو نتاج عون كل منها للآخر في إنجازه أو في وجوده أو في الدفاع عن مواقفه. والتماس الأعـذار له.

زر الذهاب إلى الأعلى