الإيصاء بالأعضاء بين الإرادة الصريحة والإرادة المفترضة

بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر –  القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المحامي بالنقض والإدارية العليا

«التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة»، وذلك على حد تعبير المادة الحادية والستين من الدستور المصري الحالي الصادر عام 2014م. ومع ذلك، ورغم أهمية التبرع بالأعضاء والمعنى الإنساني من وراء هذا التصرف، فإن ثمة مخاطر محفوفة بهذا الإجراء. فإذا كان التبرع بالأعضاء محموداً، فإن الإتجار بالأعضاء البشرية يشكل إحدى صور جرائم الاتجار بالبشر. وغني عن البيان أن الإتجار بالبشر عموماً والاتجار بالأعضاء البشرية على وجه الخصوص جريمة يعاقب عليها القانون. بل إن تجريم هذا السلوك يرقى إلى مرتبة القواعد الدستورية في العديد من الدول. فعلى سبيل المثال، وحرصاً على حرمة الجسد، وإدراكاً لخطورة الإتجار بالأعضاء البشرية، تنص المادة 60 من الدستور المصري الحالي على أن «لجسد الإنسان حرمة، والاعتداء عليه، أو تشويهه، أو التمثيل به، جريمة يعاقب عليها القانون. ويحظر الإتجار بأعضائه، ولا يجوز إجراء أية تجربة طبية أو علمية عليه بغير رضاه الحر الموثق، ووفقاً للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، على النحو الذي ينظمه القانون».

 

ومن هنا، ولتحقيق التوازن المقصود الذي يكفل إباحة وإتاحة التبرع بالأعضاء وحظر ومكافحة وتجريم الاتجار بالأعضاء البشرية، كان من الطبيعي أن يتدخل المشرع بتنظيم نقل وزراعة الأعضاء البشرية. ولذلك، ولكفالة الحماية اللازمة لحرمة الجسد، يستلزم المشرع في أي إجراء ينصب على جسم الإنسان أن يكون ذلك برضاه الحر الموثق.

 

وهكذا، يبدو سائغاً القول إنه كم كان جيداً أن يرد النص في الدستور على حظر إجراء أي تجربة طبية أو علمية على الإنسان بغير «رضاه الحر الموثق». وكم كان جيداً أيضاً أن يخول الدستور في المادة الحادية والستين منه لكل إنسان الحق في التبرع بأعضاء جسده أثناء حياته، متى كان ذلك بموجب «موافقة موثقة». وبعبارة أخرى، كم كان المشرع الدستوري موفقاً عندما تطلب «الموافقة الموثقة» في تبرع الإنسان بأعضاء جسده أثناء حياته. إذ يبدو شرط «الموافقة الموثقة» متسقاً مع شرط الرضاء الحر الموثق الوارد في المادة الستين من الدستور كمتطلب أولي وضروري لإجراء أي تجربة طبية أو علمية عليه». فإذا كان الفقه والقضاء مستقران على أن رضاء المريض هو أحد شروط إباحة العمل الطبي، رغم أن الهدف منه شفاء المريض، ويشكل بالتالي عملاً نافعاً للمريض أو هو على الأقل عمل دائر بين النفع والضرر، فإن الرضاء ينبغي أن يكون من باب أولى أحد الشروط الأساسية والضرورية لنقل عضو من إنسان حي إلى آخر. بل ينبغي أن يكون الرضاء أو الموافقة «موثقة» وثابتة ثبوتاً يقينياً. وهذا الشرط ليس محلاً للجدل أو الخلاف، ولا يجوز أن يكون كذلك.

 

ولكن، التساؤل يثور عن مدى ملاءمة النص في المادة الحادية والستين من الدستور على أن تكون «الوصية موثقة» في حالة تبرع الإنسان بأعضائه بعد مماته. إذ تنص المادة 61 من الدستور على أن «التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة، ولكل إنسان الحق في التبرع بأعضاء جسده أثناء حياته أو بعد مماته بموجب موافقة أو وصية موثقة، وتلتزم الدولة بإنشاء آلية لتنظيم قواعد التبرع بالأعضاء وزراعتها وفقاً للقانون».

 

وللإجابة عن هذا التساؤل، نرى من المفيد استعراض خطة التشريعات المقارنة في هذا الشأن. ويمكن التمييز في هذا الصدد بين اتجاهين: أولهما، يشترط أن تكون الموافقة أو الوصية صريحة. أما ثانيهما، فيكتفي بالموافقة المفترضة.

 

المطلب الأول

اتجاه الموافقة الصريحة

تمهيد وتقسيم:

باستقراء الأحكام الواردة في التشريعات العربية بهذا الشأن، يمكن القول إن إجماع هذه التشريعات منعقد على تبني اتجاه اشتراط الموافقة الصريحة للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة. ومع ذلك، ورغم انعقاد الاجماع على توافر الموافقة الصريحة كشرط للتبرع، فإن هذه التشريعات انتهجت مذاهب مختلفة فيما يتعلق بكيفية أو آلية إثبات هذه الموافقة. والقاسم المشترك بين كل هذه التشريعات هو اشتراط أن تكون الموافقة مكتوبة. ولكن، البعض لم يكتف بمجرد الكتابة، متطلباً شروطاً أخرى للتحقق من موافقة المتبرع. ويبدو هذا جلياً من خلال العرض التالي:

 

اشتراط القانون المصري وصية موثقة أو الإثبات في أي ورقة رسمية أو الإقرار

يشترط المشرع المصري أن تكون الوصية موثقة للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة، أو أن تكون مثبتة في أي ورقة رسمية، أو أن يكون الشخص قد أقر برغبته في التبرع وفق الإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية للقانون. إذ تنص المادة الثامنة من القانون رقم 5 لسنة 2010م بشأن تنظيم زرع الأعضاء البشرية على أن «يجوز لضرورة تقتضيها المحافظة على حياة إنسان حي أو علاجه من مرض جسيم أو استكمال نقص حيوي في جسده، أن يزرع فيه عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسد إنسان ميت، وذلك فيما بين المصريين إذا كان الميت قد أوصى بذلك قبل وفاته بوصية موثقة، أو مثبتة في أية ورقة رسمية، أو أقر بذلك وفقاً للإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون».

 

وهكذا، يتطلب المشرع لثبوت إيصاء الشخص بأعضائه بعد وفاته، تحقق إحدى صور ثلاثة، هي: وصية موثقة؛ وصية مثبتة في أي ورقة رسمية؛ الإقرار بالتبرع وفق الإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية للقانون.

 

اشتراط القانون السعودي الوصية الموثقة

في المملكة العربية السعودية، ووفقاً للمادة الثانية من المرسوم الملكي رقم (م/ 70) وتاريخ 19/ 8/ 1442هـ بالموافقة على نظام التبرع بالأعضاء البشرية، «يجوز للشخص أن يتبرع أو يوصي بالتبرع بأي عضو من أعضائه البشرية وفقاً لأحكام النظام وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، على أن يجري ذلك بصورة مكتوبة وموثقة على النحو الذي تحدده اللائحة».

 

وإذا كان المشرع السعودي قد تطلب «التوثيق» في حالة وصية الشخص حال حياته بالتبرع بأعضائه بعد وفاته، فإن المشرع يكتفي بموافقة الأقارب على نقل الأعضاء البشرية من الإنسان المتوفى، إذا لم يكن قد أوصى بها حال حياته، دون أن يتطلب في صدور هذه الموافقة شكل معين، مكتفياً بأن تكون الموافقة وفق الضوابط التي تحددها اللائحة. فوفقاً للمادة الثالثة من نظام التبرع بالأعضاء البشرية، «في غير الحالتين الواردتين في المادة (الثانية) من النظام، يجوز نقل الأعضاء البشرية من الإنسان المتوفى بناءً على موافقة أقرب وريث له. فإن تعذر التعرف على الورثة؛ فتؤخذ موافقة أقرب الأقارب إليه. وإذا تعدد الأقارب وكانت مرتبتهم واحدة؛ فيجب الحصول على موافقة الأغلبية منهم على الأقل. وتكون الموافقة وفقاً للضوابط التي تحددها اللائحة». وهكذا، ورد النص خلواً من تحديد شكل معين لموافقة الأقارب على التبرع بأعضاء المتوفى. ويمكن تبرير ذلك في أن مدة صلاحية العضو للنقل إلى شخص آخر تكون محدودة بمدى زمني قصير بعد تحقق الوفاة، ويغدو طبيعياً بالتالي ألا يتشدد المشرع في شكل الموافقة، حرصاً على عدم فوات الوقت في إجراءات شكلية.

 

وفي جميع الأحوال، وسواء صدرت الموافقة من المتبرع الموصي نفسه حال حياته أو من أقاربه بعد وفاته، فإن المشرع يخول لمن صدرت عنه الموافقة أن يرجع فيها وأن يعدل عن تبرعه دون قيد أو شرط. إذ تخول المادة الرابعة من نظام التبرع بالأعضاء البشرية «لكل من المتبرع قبل إجراء عملية استئصال عضوه البشري المتبرع به، والموصي المتبرع قبل وفاته؛ العدول عن التبرع دون أي قيد أو شرط، ويسري هذا الحكم على من صدرت منه الموافقة وفقاً للمادة (الثالثة) من النظام». والبين من هذا النص أن المشرع لم يحدد شكلاً معيناً للعدول. وإزاء ذلك، ولتحقق هذا العدول، نرى من الواجب تطبيق مبدأ توازي الأشكال، بحيث يتعين أن يتم العدول بالطريقة ذاتها التي تم بها التبرع أو الإيصاء. فإذا كان المشرع يتطلب أن يكون الإيصاء موثقاً، فإن العدول بدوره ينبغي أن يكون موثقاً.

 

اشتراط القانون الإماراتي إدراج الموافقة في بطاقة الهوية أو في أي وثيقة أخرى

في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحت عنوان «شروط النقل بعد الوفاة»، تنص المادة الخامسة عشرة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (5) لسنة 2016 في شأن تنظيم نقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية على أن «يجوز نقل أي عضو أو جزء منه أو نسيج بشري بشرط توفر الآتي:

1- ألا يتم النقل إلا بعد ثبوت الوفاة.

2- أن يتم إثبات الوفاة بواسطة لجنة تشكل من ثلاثة أطباء متخصصين من بينهم طبيب متخصص في الأمراض العصبية، على ألا يكون من بينهم وقت إعداد التقرير الطبيب الموكل إليه تنفيذ عملية نقل الأعضاء والأنسجة، أو مالك المنشأة الصحية التي ستجرى فيها العملية، أو أحد الشركاء فيها.

3- ألا يكون قد عبر صراحة عن رفضه التبرع بأعضائه وأنسجته حال حياته.

4- أن يكون قد عبر عن رغبته في التبرع وفقاً لأحكام المادة (16) من هذا المرسوم بقانون، وفي حال عدم قيامه بذلك فإنه يجب الحصول على الموافقة المنصوص عليها بالمادة (17) من هذا المرسوم بقانون.

5- أن يتم النقل بطريقة تراعي عدم تشويه الجثة».

 

وهكذا، يتطلب المشرع الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة أن يكون المتوفى قد عبر قبل وفاته عن رغبته في التبرع. وللتحقق من ذلك، وتحت عنوان «إثبات التبرع لما بعد الوفاة»، تنص المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (5) لسنة 2016 في شأن تنظيم نقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية على أن «يجوز لكل شخص توفرت فيه الأهلية الكاملة، أن يبدي رغبته بالتبرع أو عدمها بأحد أعضائه أو أجزاء منها أو أنسجته لما بعد وفاته، وله العدول عن هذه الرغبة في أي وقت دون قيد أو شرط، على أن يدرج ذلك في بطاقة الهوية أو أية وثيقة أخرى، وذلك وفقاً لما تحدده اللائحة التنفيذية لهذا المرسوم بقانون». والبين من هذا النص أن المشرع يتطلب لإثبات التبرع أن يتم إدراج رغبة الشخص في التبرع في بطاقة الهوية أو في أي وثيقة أخرى. وفي اعتقادنا، أن هذه الوسيلة في الإثبات متطلبة، سواء في حالة إبداء الرغبة في التبرع أو في حالة رفض الإنسان التبرع بأعضائه وأنسجته حال حياته.

 

ولكن، هذه الطريقة المخصوصة في الإثبات لا يوجد نظير لها في حالة موافقة الأقارب على التبرع. فتحت عنوان «شروط النقل من شخص متوفى لم يسبق له إبداء رغبته بالنقل»، تنص المادة السابعة عشرة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (5) لسنة 2016 في شأن تنظيم نقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية على أن «يشترط لاستئصال عضو أو جزء منه أو نسيج بشري من جثة متوفى لم يوص حال حياته كتابة برغبته أو عدم رغبته في التبرع، موافقة أي من أقاربه كاملي الأهلية الموجودين داخل الدولة حال وفاته وذلك حسب الترتيب التالي:

أولاً: الأب.

ثانياً: أكبر الأبناء سناً.

ثالثاً: الابن الوحيد في الدولة.

رابعاً: الجد.

خامساً: أكبر الأخوة الأشقاء ثم أكبرهم لأب إن لم يوجد الشقيق.

سادساً: الأخ الوحيد داخل الدولة.

سابعاً: العم العصبة ويقدم العم الشقيق على العم لأب.

ثامناً: الزوج أو الزوجة إذا لم يعرف للمتوفى عصبة حسب الترتيب السابق». والبين من هذا النص أن المشرع يكتفي بمجرد موافقة أي من أقاربه، وفق الترتيب الذي أورده القانون، دون أن يتطلب في هذه الموافقة شكل معين.

 

اشتراط القانونين الكويتي والبحريني إقرار كتابي مصحوب بشاهدين

في دولة الكويت، ووفقاً للمادة الثانية من المرسوم بقانون رقم 55 لسنة 1987 بشأن زراعة الأعضاء، «للشخص كامل الأهلية قانوناً أن يتبرع أو يوصي بأحد أعضاء جسمه أو أكثر من عضو ويكون التبرع أو الوصية بإقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية». والمستفاد من هذا النص أن المشرع الكويتي يتطلب إقراراً كتابياً إذا رغب الشخص في الإيصاء بأعضائه أو ببعضها بعد وفاته. فلا تكفي مجرد الموافقة الشفوية.

 

ويكون الاعتراض أو رفض التبرع بالأعضاء بعد الوفاة بالطريقة ذاتها، أي من خلال إقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية. وهذا الفهم يستفاد من البند (ب) من المادة الخامسة من المرسوم بقانون رقم 55 لسنة 1987 بشأن زراعة الأعضاء.

 

ولكن، إذا لم يوص الشخص حال حياته بالتبرع بأعضائه، ولم يرفض ذلك، فإن المشرع الكويتي يجيز للأقارب التبرع بأعضاء قريبهم المتوفى. وفي هذه الحالة، يكتفي المشرع بأن تصدر موافقة الأقارب في شكل إقرار كتابي، دون أن يشترط المشرع شهادة الشهود. فوفقاً للمادة الخامسة من المرسوم بقانون رقم 55 لسنة 1987 بشأن زراعة الأعضاء، «يجوز نقل الأعضاء من جثة متوفى بموافقة من وجد حال وفاته من أقرب أقربائه كاملي الأهلية حتى الدرجة الثانية فإذا تعدد الأقارب في مرتبة واحدة وجب موافقة غالبيتهم، وفي جميع الأحوال يجب أن تصدر الموافقة بإقرار كتابي ويكون ذلك بمراعاة ما يلي: (أ) التحقق من الوفاة بصورة قاطعة بواسطة لجنة تشكل من ثلاثة أطباء اختصاصيين من بينهم طبيب اختصاصي في الأمراض العصبية على ألا يكون من بين أعضاء اللجنة الطبيب المنفذ للعملية. (ب) ألا يكون الشخص المتوفى قد اعترض حال حياته على استئصال أي عضو من جسمه وذلك بإقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية».

 

وفي الاتجاه ذاته، وفي مملكة البحرين، ووفقاً للمادة الثانية من المرسوم بقانون رقم (16) لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية، «يجوز للشخص أن يتبرع أو يوصي بأحد أعضاء جسمه، ويشترط في المتبرع أو الموصي أن يكون كامل الأهلية قانوناً، ويكون التبرع أو الوصية بموجب إقرار كتابي موقع عليه منه، ويشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية».

 

ورغم أن المادة الرابعة من المرسوم بقانون ذاته قد وردت عامة، بحيث قد يعتقد البعض أن حكمها يسري في حالتي التبرع والإيصاء، فإن المنطق يقول باقتصار الحكم الوارد فيها على حالة تبرع الإنسان بأعضائه حال حياته، فلا يمتد الحكم الوارد فيها إلى حالة الإيصاء بالأعضاء بعد الوفاة. إذ تنص المادة الرابعة من المرسوم بقانون رقم 16 لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية على أن «تجب إحاطة المتبرع بجميع النتائج الصحية المؤكدة والمحتملة التي تترتب على استئصال العضو المتبرع به، وتتم الإحاطة كتابة من قبل لجنة طبية متخصصة، بعد إجراء فحص شامل للمتبرع. ويجوز للمتبرع قبل إجراء عملية الاستئصال أن يرجع في تبرعه دون قيد أو شرط، ولا يجوز للمتبرع استرداد العضو الذي تم استئصاله منه بعد أن تبرع به وفقاً للقانون».

 

وإذا كان الإيصاء بالتبرع بالأعضاء بعد الوفاة يجب أن يكون في شكل إقرار مكتوب موقع عليه من الموصي، ويشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية، فإن رفض التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، وبحيث يسلب الأقارب حقهم في الموافقة على التبرع بأعضاء المتوفى، ينبغي أن يكون بالشكل ذاته والطريقة ذاتها، أي بموجب إقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية. وسندنا في ذلك هو البند الثاني من الفقرة الثانية من المادة الخامسة من المرسوم بقانون رقم 16 لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية.

 

فإذا لم يكن الشخص قد أوصى بالتبرع بأعضائه بعد وفاته، وفي الوقت ذاته لم يرفض هذا الأمر، فإن للأقارب أن يوافقوا بعد وفاته على التبرع بأعضائه. وفي هذه الحالة، يكتفي المشرع بأن تصدر الموافقة في شكل إقرار كتابي، فلا يستلزم شهادة الشهود. ولعل ذلك يبدو جلياً من قراءة المادة الخامسة من المرسوم بقانون رقم 16 لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية، بنصها على أن «يجوز نقل الأعضاء من جثة متوفى، بشرط الحصول على موافقة أقرب الأشخاص إليه حتى الدرجة الثانية، فإذا تعدد الأقارب في مرتبة واحدة، وجبت موافقة غالبيتهم. وفي جميع الأحوال يجب أن تصدر الموافقة بإقرار كتابي، وذلك بالشروط التالية: 1- التحقق من الوفاة بصورة قاطعة، بواسطة لجنة طبية تشكل من ثلاثة أطباء متخصصين، من بينهم طبيب متخصص في الأمراض العصبية، على ألا يكون من بين أعضاء اللجنة الطبيب المنفذ للعملية. 2- ألا يكون الشخص المتوفى قد أوصى حال حياته بعدم استئصال أي عضو من جسمه وذلك بموجب إقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية».

 

ويتأكد الفهم السابق بمطالعة اللائحة التنفيذية للمرسوم بقانون رقم (16) لسنة 1998 بشأن نقل وزراعة الأعضاء البشرية، الصادرة بموجب قرار وزارة الصحة رقم (65) لسنة 2020م، والتي تنص المادة التاسعة عشرة منها على أن «يجوز للشخص كامل الأهلية قانوناً التبرع بأحد أعضائه، بشرط أن يكون رضاه صحيحاً، وأن يوقع إقراراً كتابياً بذلك يتضمن بيانات كافية عن العضو البشري المتبرع به، ويشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية. ويجوز للمتبرع قبل إجراء عملية نقل العضو البشري أن يرجع في تبرعه دون قيد أو شرط، ولا يجوز للمتبرع استرداد العضو البشري الذي تم استئصاله منه بعد أن تبرع به وفقًا للقانون وأحكام هذه اللائحة».

 

اشتراط القانون القطري إقرار كتابي مصحوب بشاهدين مع إدراج الموافقة في البطاقة الشخصية

في دولة قطر، ووفقاً للمادة الخامسة من القانون رقم (15) لسنة 2015 بشأن تنظيم نقل وزراعة الأعضاء البشرية، «للشخص كامل الأهلية أن يتبرع أو يوصي بعضو أو أكثر من أعضاء جسمه، أو بأنسجة أو خلايا، بموجب إقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملاً الأهلية. ويكون الإيصاء بإدراج ما يدل على ذلك في البطاقة الشخصية». والبين من هذا النص أن المشرع القطري يستلزم لتحقق الإيصاء الأعضاء البشرية بعد الوفاة أن يكون ذلك بموجب إقرار كتابي مصحوب بشهادة شاهدين كاملي الأهلية. ومتى تحقق ذلك، ولسهولة التعرف على أن المتوفى قد سبق له حال حياته الإيصاء بأعضائه أم لا، يوجب المشرع أن يتم إدراج ما يدل على الإيصاء بالأعضاء في البطاقة الشخصية.

 

اشتراط القانون العماني وجود وصية مكتوبة

في سلطنة عمان، ورد النص على الأحكام المنظمة للتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية من الميت، وذلك في الفصل الرابع من اللائحة التنظيمية لنقل وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية الصادرة بموجب قرار وزارة الصحة رقم 179/ 2018م. وبمطالعة المادة العاشرة من اللائحة التنظيمية، نجدها تنص على أن «يشترط لنقل العضو أو النسيج البشري من الميت الآتي: 1- وجود وصية مكتوبة، واستثناء من ذلك يجوز نقل عضو أو نسيج بشري من الميت بموافقة ولي أمره. 2- أن يثبت الموت بشكل نهائي على وجه اليقين، وذلك وفقاً لحكم المادة (11) من هذه اللائحة».

وهكذا، فإن الاتجاه السائد في معظم تشريعات الدول العربية هو اشتراط الموافقة الصريحة للشخص حال حياته على التبرع بأعضائه بعد الوفاة. بل إن هذه القاعدة تكتسب قيمة دستورية في النظام القانوني المصري، وبحيث تتطلب الوثيقة الدستورية أن تكون الموافقة بموجب وصية موثقة. ونعتقد أن المشرع الدستوري لم يكن موفقاً في اشتراط أن تكون الوصية «موثقة» في حالة تبرع الإنسان بأعضائه بعد مماته. فلا يجوز التسوية في الحكم بين تبرع الإنسان بأعضائه حال حياته، وبين التبرع بالأعضاء بعد الممات. وإذا كان مستساغاً إبداء قدر أكبر من الحرص في حالة الحياة، منعاً للاتجار بالأعضاء البشرية أو درءاً لأي خلاف قد يثور بشأن تبرع الفرد بأحد أعضائه، فإن الأمر يبدو مختلفاً بعد الممات، حيث تنتفي حاجة الشخص إلى أعضاء جسده. بل إن هذه الأعضاء سوف تتحلل تلقائياً بعد الوفاة. ولذلك، اتجهت بعض التشريعات الحديثة إلى افتراض موافقة الإنسان على التبرع بأعضائه بعد وفاته، ما لم يعبر صراحة عن رغبته في عدم التبرع. وهكذا، فإن الاتجاه المقرر في العديد من التشريعات المعاصرة هو أن الأصل هو التبرع والاستثناء عدم التبرع، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال العرض التالي:

المطلب الثاني

اتجاه الموافقة المفترضة

خلافاً للاتجاه السابق، والذي ساد في أغلب الدول العربية، تتبنى بعض التشريعات الأوربية نهجاً مختلفاًـ يقوم على افتراض موافقة كل شخص على التبرع بأعضاء جسمه بعد وفاته، وبحيث يتم نقل أعضائه بمجرد وفاته إلى شخص آخر، ما لم يكن الشخص قد عبر حال حياته عن رفض الإيصاء بأعضاء جسمه. فعلى سبيل المثال، وفي الجمهورية الفرنسية، وبموجب القانون الصادر في الثاني والعشرين من ديسمبر 1976م، والمعروف باسم «قانون كايفيه»، غدا مفترضاً تبرع كل فرد بأعضائه، ما لم يعبر صراحة حال حياته عن رفضه التبرع بأعضائه.

Depuis la loi du 22 décembre 1976, chacun est présumé donneur, sauf en cas de refus exprimé de son vivant : voir Loi Caillavet, Journal Officiel du 23/12/1976, page 07365.

وهذا المبدأ تم إقراره والتأكيد عليه بموجب قانون تحديث النظام الصحي، الصادر في السادس والعشرين من يناير 2016م، والذي بين دور الأقارب وحدد الكيفية التي يمكن من خلالها للشخص أن يرفض التبرع بأعضائه، إذ ينص بشكل خاص على الدخول الالكتروني على السجل الوطني لرفض التبرع بالأعضاء، والذي تتم إدارته بواسطة وكالة الطب الحيوي.

Ce principe a été réaffirmé par la loi de modernisation du système de santé du 26 janvier 2016, voir Journal Officiel N° 0022 du 27/01/2016.

Cette loi éclaircit le rôle des proches et précise comment refuser de donner ses organes. Elle prévoit notamment l’accès en ligne au registre national des refus géré par l’Agence de la biomédecine.

 

وفي المملكة المتحدة، صدر قانون التبرع بالأعضاء (الموافقة المفترضة) لعام 2019م.

Organ Donation (deemed Consent) Act 2019.

وقد صدر هذا القانون لإدخال تعديلات على قانون الأنسجة البشرية لعام 2004م، فيما يتعلق بالموافقة على الأنشطة المنفذة لغرض الزرع؛ وما يتصل بذلك من أغراض. وقد دخل هذا القانون حيز النفاذ اعتباراً من أول أكتوبر 2019م.

 

وتضمن هذا القانون تعديل المادة الفرعية (6)، بحيث يضاف بعد الفقرة (ب) العبارة التالية: «إذا لم تنطبق أي من الفقرة (أ) أو الفقرة (ب) وكان النشاط ينطبق عليه المادة الفرعية (6 أ)، فإن الموافقة مفترضة من الشخص المعني».

وفيما يتعلق بنطاق تطبيق هذا الحكم، تنص المادة (6 أ) على أن تنطبق المادة الفرعية (6) على الأنشطة التالية التي تتم في إنجلترا، ما لم يكن الجسد هو جسد شخص بالغ مستثنى:

أ. تخزين جثة المتوفى لاستخدامها لغرض الزرع؛

ب. إزالة أي مادة مسموح بها يتكون منها الجسم أو يحتوي عليها من جسد شخص متوفى، لاستخدامها لغرض الزرع؛

ج. التخزين للاستخدام لغرض زرع أي مادة مسموح بها أتت من جسم الإنسان؛

د. الاستخدام لغرض زرع أي مادة مسموح بها أتت من جسم الإنسان.

وتنص المادة (6 ب) على أنه «لأغراض المادة الفرعية (6) (ب)، يجب اعتبار أن الشخص المعني قد وافق على النشاط، ما لم يقدم الشخص الذي كان في علاقة مؤهلة مع الشخص المعني قبل الوفاة مباشرة، معلومات من شأنها أن تؤدي إلى استنتاج الشخص العاقل بأن الشخص المعني لم يكن ليوافق».

 

أما فيما يتعلق بالشخص المستثنى، فإن المادة التاسعة من القانون تنص على أنه «في المادة الفرعية (6 أ): «البالغ المستثنى» يعني:

أ. شخص بالغ مات ولم يكن مقيماً بشكل عادي في إنجلترا لمدة 12 شهراً على الأقل قبل وفاته مباشرة، أو

ب. شخص بالغ مات ولفترة طويلة قبل موته كان يفتقر إلى القدرة على فهم تأثير المادة الفرعية (6) (ب أ)؛

وتنص المادة العاشرة على أنه «لأغراض تعريف “البالغ المستثنى” في المادة الفرعية (9)، تعني الفترة المهمة فترة طويلة بما يكفي لتقود الشخص العاقل إلى استنتاج أنه من غير المناسب اعتبار الموافقة مقدمة بموجب المادة الفرعية (6) (ب أ)».

زر الذهاب إلى الأعلى