الإنسان والصيرورة في خضم الحياة !
الإنسان والصيرورة في خضم الحياة !
نشر بجريدة الوطن الجمعة 23 / 7 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الكون من حولنا في حركة دائمة لا تتوقف.. هو« صائر دائمًا »، ومع هذه « الصيرورة » الدائمة المستمرة يتعامل الآدمي، ينجح أو يخفق، يبدع أو يخمل، تحدد « ذاته » معالمها ودورها من واقع هذا التعامل الحي مع الكون الصائر الحي، وليس يعنى هذا أن الإنسان يشارك في خلق الله، أو يضيف إليه، وإنما هو يتفاعل ويتلاحم ويلتئم مع هذه الصيرورة الحية المتفاعلة.. الحق جل شأنه قد خلق الكون برمته من العدم، وخلق السموات والأرض، والشمس والقمر والكواكب والأجرام والمجرات والأفلاك، ونظم سبحانه هذا الكون ودبره، بث فيه أسباب الحياة في نظام بديع هائل.. تتلاقى فيه آيات وحدة الخالق سبحانه وقدرته، وإحكام تدبيره، وتتجلى فيه « الحركة الدائمة » في كل ربع من ربوعه، وكوكب من كواكبه، وفلك من أفلاكه.. الحركة الدائمة هي قانون الكون كله.. هي الصفة العامة التي تشمل الكائنات جميعًا.. تتراءى للناظر المتأمل حيثما اتجه نظره في هذا الكون الفسيح المعجز للأفهام !
كل ما في الكون في حركة دائمة مستمرة لا تنى ولا تهدأ.. عـرف الناس من قديم أن الشيء الساكن يظل ساكنًا أبدًا، إلا أن تفعل فيه قوة تحركه، وفي هذا أصابوا.. بيد أنهم ظنوا أن الشيء المتحرك لا يبقى متحركًا إلا إذا وافاه مدد دائم من قوة تدفعه وتحركه، وفي هذا أخطأوا !!.. الذي أكده العلم وتجاربه، أن الجسم الساكـن ساكن أبدًا إلا أن تتدخل قوة تحركه، وأن الجسم المتحرك متحرك أبدًا، وبنفس سرعته، إلا أن تتدخل قوة تؤثر في حركته سلبًا أو إيجابًا.. السيارة التي تفقد سرعتها حتى تتوقـف، لا يطرأ عليها ذلك لتوقف موتورها عن العمل، وإنما بفعل الجاذبية الأرضية ومقاومة الهواء والاحتكاك بالأرض.
حيثما نظر الناظر في الكون، سوف يرى « الحركة » قانونًا شاملاً عامًا يتجلى في شموس الكون وأرضينه وكواكبه وأجرامه ومجراته وأفلاكه.. كوكبنا الأرضي الذي فيه وعليه نعيش، في حركة دائمة، تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس، من غرب إلى شرق.. والقمر ـ كالأرض ـ في حركة دائمة، يدور حول نفسه وحول الأرض.. وهو يتبع أمه الأرض في دورانها حول الشمس، ومدارهما معًا من غرب إلى شرق !!
وحياة الآدمي في اتصاله الدائم بتيار الحياة.. في ولوج ربوعها وميادينها والمساهمة في صنعها ونسقها وإيقاعها.. في الإسهام البناء المثمر في تعمير الدنيا وإثراء الحياة وتجميلها ونفع الإنسان بهذا الرباط الفاعل بين الأحياء وبينهم وبين الحياة.. اتصال الآدمي بالحياة هو الذي يجعله قوة فاعلة معطاءة، ويقيه الخواء والعبث واللا أهمية ــــ في القرآن المجيد: « تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » ( الملك 1، 2 ).. الآدمي معلق مصيره بعمله، والحياة كلها ابتلاء للآدمي.. ميزان هذا الامتحان ماذا عمل الإنسان وماذا استطاع بتناغمه مع حركة الحياة الدائمة أن ينجز وأن يعطى وأن يقدم.. في القرآن المجيد: « وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » (التوبة 105).. « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإليهِ النُّشُورُ » (الملك 15).. « وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا » (الأحقاف 19) « وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافسُونَ » (المطففين 26).
الكواكب السيارة.. لم يعرف الإنسان في الزمن الغابر من هذه الكواكب سوى خمسة: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل.. بيد أنه كشف منذ القرن الثامن عشر عن ثلاثة كواكب أخرى: أورانس ونبتون وبلوتو !.. سماها كلها بالسيارة تمييزًا لهـا عـن النجـوم التي جرى الظن أنها ثابتة لا تدور، ولا تتحرك !.. بيد أنه اكتشف أن هذه الكواكب ليست وحدها السيارة، بل الكل في حركة دائبة ودائمة.. الأجرام والنجوم والشموس.. الشمس ربة هذه الأسرة، استبان أنها حول نفسها تدور من غرب إلى شرق، وأن كل النجوم والكواكب تدور في جملتها حول نفسها وحول الشمس.. إن لسائر الكواكب ـ كالأرض ـ أيامًا وأعوامًا وإن اختلفت أطوالها عن أيام وأعوام الأرض.. كل ذلك نابع من حركتها وحركة الأفلاك والشموس والأقمار الدائمة !!.. هذه الحركة ليست قصرًا على الشمس والأرض والكواكب والنجوم والشهب والمذنبات، وإنما تشمل المجرة أو سكة التبانة.. وهي قرص متوهج عظيم يضم المجموعة الشمسية وآلافًا مؤلفة من النجوم، وتظهر في السماء كهالة كبيرة من نور وسط عتمة فسيحة مظلمة.. هذه المجرة ـ مجرتنا، وغيرها مئات الملايين من المجرات في هذا الفضاء اللا نهائي ـ ثبت أنها هي الأخرى في حركة دائمة، تدور.. وعلى نفس قانون الكون من غرب إلى شرق !!
والحركة الدائمة في الكون ليست وقفًا على الأجرام، وإنما تتجلى أكثر حركةً وإيقاعًا في دورة الحياة في الكون وفي المخلوقات ـ كل المخلوقات ـ على السواء.. تتجلى في الشمس التي تضرب البحار فتتحول أبخرة تتصاعد إلى السموات، فيجمدها البرد فتهطل أمطارًا تصافح وجه الأرض فتخضر بها الحياة على أديمها، وتشرب الكائنات من ينابيعها وأنهارها.. تتجلى في أوراق الأشجار والأفنان تسقط لينبت غيرها، مثلما تتجلى في دورة الحياة بين بنى الإنسان وكل الخلائق والكائنات.. أجيال تبيد، وأجيال تولد، ومن الموت توهب الحياة، تتوالى الحيوات مثلما تتوالى الفصول والأيام.. ليال تروح، وليال تجيء، وشموس تشـرق وتغيب، يولَج ( بفتح اللام ) النهار في الليل، ويولـَج الليل في النهـار، وتتعاقب دورات الحياة لا تستثنى من حركتها شيئًا ولا كائنًا.. إما أن يمسك الحي بزمامهـا ويتلاحـم ويلتئم معهـا، ويتوحـد مع إيقاعها، وإلا يموت !!.. هذه « الصيرورة الدائمة » هي ميدان الآدمي الذي فيه تجرى خطاه وتضرب سواعده ويحلق عقله ويتوالد ويتواصل عطاؤه ويستمد معنى الحياة !!