الإنسان والدول بين الأصل والطبيعة والأحوال ! (2)
من تراب الطريق (986)
الإنسان والدول بين الأصل والطبيعة والأحوال ! (2)
نشر بجريدة المال الأحد 29/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الدول كالأفراد، قد تعتنق الحرية والديمقراطية في إطار مجتمعها حتى النخاع، وتمضى في تسيير شئون بلادها ورعاية شعوبها على منظومة الحرية والقيم الأخلاقية والدستورية والقانونية التي ارتضتها . ولكنه ارتضاء ناقص مبتور، لأنه محصور في الداخل وكفى.. ما إن يغادره إلى الخارج، ويخوض لجج السياسة ومصالحها وأهواءها ومآربها، حتى تتلبس الدولة « حالة » غير « حالة » التي تدير بها شئون الحكم في داخلها. راودتني هذه الخواطر وأنا أتأمل حوادث فظيعة أليمة شنيعة صدرت عن أمريكا وفرنسا وإنجلترا أو عن الأمريكي أو الفرنسي أو الإنجليزي حين يصدر في سلوكه عن دولته ويعبر عن سياستها ويخدم أغراضها . لا خلاف على أن فرنسا بلد النور والحرية، وأن تاريخها فيهما قديم يمتد إلى أكثر من مائتي عام منذ الثورة الفرنسية التي بلغت قمتها في 14 يوليو 1789، وانتقلت بفرنسا نقلة هائلة نضحت على أوربا كلها إعلاءً لقيم الحرية والعدالة. ومع ذلك وجدت ذات الفرنسيين الذين يحملون في حناياهم هذه القيم التي أحيتها فيهم ثورة الحرية الفرنسية ـ يقدمون إبان الحملة الفرنسية على إعدام السيد محمد كريم حاكم أو عمدة الإسكندرية في 6 سبتمبر 1798، بقتله قِتْلةً بشعة على « الخازوق » بقلعة القاهرة في صورة تحمل من الاشمئزاز ما يعيدنا إلى عصور الظلام. بذات هذا الأسلوب المتنافي تمامًا مع قيم الحرية والعدالة التي أتت بها الثورة الفرنسية، أعدمت الحملة الفرنسية سنة 1800 على الخازوق أيضا ـ سليمان الحلبى، ولكن بعد أن قطعوا وأحرقوا يده اليمنى، وعلقوا جثمانه مع ثلاثة من رؤوس شيوخ الأزهر نهبا للعقبان . الفظائع التي ارتكبها الفرنسيون بالجزائر وفي كثير من الأقطار المحتلة، لا تقع تحت حصر . الإنجليز ـ أصحاب الحضارة العريقة ـ ارتكبوا كوارث في الهند وفي بلاد احتلتها الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، وفعلوا في دنشواي (1906 ) ما يشيب له الولدان .
نصبوا المشانق وحصدوا عشرات الأرواح وجلدوا البسطاء ـ كل ذلك أمام أبناء القرية ـ على ماذا ؟! على ضابط سقط مصابًا برأسه بضربة شمس وهو يعدو فرارًا من الأهالي الذين ثاروا احتجاجًا على استخفاف الضباط الذين خرجوا للصيد فأشعلوا النيران في جرن القرية، ثم أصابوا بنيرانهم ثلاثة من الخفراء الذين لم يقصدوا مع شيخ الخفراء سوى كف ملاحقة الجموع . هذه العصبة الإنجليزية بزعامة السردار، هل صدروا في هذه المذبحة النكراء ( وغيرها كثير ) عن الحضارة البريطانية، أم أنهم تلبستهم « حالة » صب فيها الغضب المغلق والغطرسة الضريرة والاستعلاء وتهاويم السلطان والهيمنة والإخافة والبطش والقمع للسيطرة وإحكام قبضة الاحتلال، وكلها شوارد نابية عن « الأصول » الطبيعية السائدة في تعامل الحكم البريطاني ببلده ومع بنيه !.. كذلك فظائع ما ارتكبه ويرتكبه الأمريكيون في أفغانستان والعراق وفي سجن بوغريب ومعتقلات جوانتانامو.. هذه الفظائع لا علاقة لها بالحضارة الأمريكية ولا بما جبل عليه الإنسان الأمريكي العادي في حياته الطبيعية .