الإنسان العاقل وتقييم الحياة والأحياء !

الإنسان العاقل وتقييم الحياة والأحياء !

نشر بجريدة الوطن الجمعة 9 / 7 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الإنسان العاقل المفكر لا يتوقف عن قياس وتقييم الحياة والأحياء، بيد أننا حين نقيس الحياة كلها لكل الأحياء بمقاييس أزمنتنا نظلمها ونظلم البشر. ذلك أن الحياة أقدم منا ومن وجودنا بكثير جدًا.. وتطورات حياتنا التي نعيشها بأعمارنا المحدودة أقصر عمرًا جدًّا من ماضينا بمراحله الماضية التي لا نعرف معظمها بل وربما جهلناها أو جهلنا بعضها جهلاً تامًّا.. وأما ما لدينا الآن في زمننا وبين أيدينا مما يستوجب الإصلاح والتقويم والالتفات التام فلم يعد يمكن السكوت عليه، ذلك أن النقص الذي نعانيه هو اختفاء الإنسانية الفعلية اختفاءً يكاد يكون عامًّا في جميع الطبقات، صاحبه ومن زمن عدم المبالاة بها حتى كأملٍ وغاية.. فلم نعد نقوى الآن وقد خبت أشياء كثيرة على محاولة جادة لتحقيق هذا الأمل وهذه الغاية، فكل خطوة منا إلى الأمام يعقبها خطوتان إلى الخلف !! فهل عجزنا حتى عن الأمل الجاد فضلاً عن المحاولة الجادة لتحقيقه ؟!!

ويجب أن نلاحظ دائما الفارق بين أشواقنا كآدميين وبين معارفنا.. والأصل أن الأشواق دائما تسبق المعرفة أى معرفة ـ حتى في حالات الإعادة والتكرار، وأن وجود الأشواق يستتبع استمرار زيادة المعرفة، وإذا توقفت الأشواق تراجعت المعرفة أو توقفت، وتوقف معها كل شىء هام في حياة الإنسان !

لم تقنع أو تشبع أشواق الإنسان إلى المعرفة قط.. ولا يمكن أن تجد ما يقنعها أو يشبعها إلاّ لأمد.. لأن هذه الأشواق يصحبها دائمًا وأبدًا اشتهاءات لواقع آخر جديد مأمول أرحب وأفضل وأصدق من أى واقع حاضر. بغض النظر عن مبلغ نجاح أو صدق ذلك المأمول.

إن تقدم عصرنا المبهر، بما امتلأ به من الأنانية والانتهازية وعدم المبالاة والجشع، قد خاض بالبشر بحور العمى والصمم والقسوة والتخريب والتدمير، وأبعدهم عن السداد مسافات هائلة جعلت إصلاح أحوالهم بعيدًا غاية البعد عسيرًا غاية العسر !..لا تجدى فيه كثرة الاجتماعات والمقابلات والمفاوضات والبيانات والقرارات والمؤتمرات والمعاهدات والقوانين والأنظمة والمجالس والهيئات والجمعيات والنقابات مع موالاة الأنباء ووسائل النشر والإذاعات من الأرضيات والفضائيات طوال النهار والليل بغير انقطاع !

إن المعرفة اليقينية لكل شىء كان ويكون وسيكون ـ من المستحيلات.. لأن الإنسان جزء فقط من الكون.. وهذا ما لا تسلم به أشواق الآدمى.. لأنه مجرد طاقة تدفع غريزته إلى الفهم والمزيد من الفهم، ولأن المعرفة التقريبية أو الإحصائية وهى كل ما في استطاعتنا من الواقع الذي يعرفه أو يمكن أن يعرفه الإنسان ـ لا تكـفي لإطفاء أشواقه.. لأنها معرفة لا تنفي الغيب والمجهول والجائز والمحتمل والمتصور والمتخيل، ولا ينقطع معها وجود المستقبل وانتظاره وتعلق الآمال والمخاوف به. فلن تنقطع أشواق الآدميين للمعرفة والمزيد من المعرفة قط. ولن يُشْفي غليلهم منها أبدًا، ولن يكفوا عن الالتجاء للآمال والأمانى والأحلام والتصورات والمخاوف والأوهام قط.

تورّمَ في التاريخ أشخاص لو درست تاريخهم بموضوعية وإمعان، لعرفت أن كلاًّ منهم مارس كل أنواع التفاهة والخداع والديماجوجية والانتهازية والتغرير واللعب بالإعلام وبمشاعر البسطاء ليصل إلى السلطة التي قفز عليها، فلما وصل إليها لم يستطع أن يكون عظيماً عظمة حقيقية تواكب مقتضيات ولوازم السلطة فانتهت حياته نهاية مأساوية ! لأنه ظل في جميع ممارساته مشدوداً لما اعتاده من أساليب وإن خدعت وفتحت الأبواب لركوب السلطة، إلاّ أنها لا تصادف ولا تصادق العظمة الحقيقية الضرورية الواجبة لممارستها وحسن إدارة وتصريف الأمور !

إننا نلهو ولا يفارقنا اللهو حين نَجِدّ، وهذا من مصادر بلائنا !.. نكتفي في الغالب الأغلب بالمريح السهل، نقبل عليه دون أن نتأكد من صحته، وربما نقدم عليه برغم مؤشرات واضحة لبطلانه، ولكن يصرفنا عن التوقف عندها أو يغرينا بتجاوزها وعدم الاتعاظ بأخطارها ـ أن عوادمها وأضرارها لن تظهر إلاّ بعد أن نختفي من الوجود !.. فميولنا الموروثة من الآباء والأجداد ـ بمحبة العافية والراحة وإيثار السلامة، قد قللت قدراتنا على المثابرة والإخلاص !. وإلى اليوم لا يزال شعورنا بالعافية يسبق عقلنا.. العقل قد يخدم العافية، وقلما يقودها، ولكنه نادرًا ما يسودها !..

في هذا الزمان، زماننا، لم يعد أحد يصبر على طلب العاجلة إيثارًا للآجلة وإن كانت أكرم وأفضل وأعظم وأبقى.. يتساقط الرجال وأشباه الرجال كأوراق الخريف طمعًا وجريًا وراء منصب أو موقع أو ترشيح أو مغنم أو سبوبة، مع أن ذات هذا الزمان الذي نعيش فيه، يرينا كل يوم مآل من تسابقوا وأسرفوا على أنفسهم وكرامتهم وعلى وطنهم وعلى الناس، وماذا صار بهم الحال حين غربت النجومية المصنوعة أو المصطنعة، وانحسرت الأضواء، وأحاط بهم السكون المطبق بلا مدد يعوضهم بذكريات تبل الخاطر، إلاَّ سكاكين الندم والخذلان.. تقطع في أحشائهم وتبرهن لهم بعد أن فات الأوان، أن الآجلة ـ لو فهموا وتفطنوا ـ كانت خيرًا لهم وللوطن.. وأبقى !!

نوايا الناس تذهب بهم أشتاتًا، ما بين الطيب والخبيث، والمستقيم والمعوج، والظاهر والخفي، وتتعدد هذه النوايا تعددًا يستعصى على الحصـر، وأحسب أن أى مجتمع من المجتمعات ـ بدائيًا أو متحضرًا ـ لا ينعدم فيه وجود نوايا طيبة صادقة، بيد أن وجود تلك النوايا لا يؤثر تأثيرًا اجتماعيًّا إلاّ إذا كان مصحوبًا بحماس غير عادى يمكنه أن يجتذب ذوى النوايا الطيبة المتفرقين الغارقين ضمن الكثرة السلبية !.. هذه الكثرة التي لا تهتم بالتعرف على النوايا وصدقها، ويغريها ويقتادها في الغالب الأعم ذوو النوايا السيئة المغرضة الأنشط حركة والأكثر مقدرة على خطاب المصالح الخاصة والأهواء الشخصية !!

لم يفطن الآدمى الفرد ـ حتى الآن ـ إلى أن إرادته وعقله وحدهما لا يكفيان لتغيير مصيره أو محيطه، وأن ذلك يستلزم أن يكون محيطه في حالة خاصة تجعله مستعدًا لقبول هذا التغيير واعتناقه ولو بعد مقاومـة قصرت أو طالت، وأن هذه الحالة لا غنى عنها لكى ينجذب ذوو النوايا الطيبة إلى صاحب الحماس المستبسل غير العادى ليكونوا الجماعة التي منها تبدأ بداية المذاهب أو النهضات. وبدون هذا الاستعداد لدى المحيط ـ لا تنفع سلطة ولا قوة عسكرية ولا تنظيم سياسى أو طائفي لتحقيق هذا الجذب والاجتماع حوله، ذلك لأن الإعراض الداخلى للمحيط يحول دون وصول التغيير إلى أعماق الناس وإتاحة الفرصة لتغيير تلتف حوله النوايا الصادقة المخلصة لحسن صناعة وترقية الحياة !

زر الذهاب إلى الأعلى