الإنسانية وملاحقة العجز والاحتياج !

الإنسانية وملاحقة العجز والاحتياج !

نشر بجريدة الوطن الجمعة 2 / 7 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

معنى الحاجة والمحتاجين هو أحلك جوانب الصورة الآدمية للإنسان وأوسعها بؤسًا وأشدها عمقًا منذ أن عرف وعايش البشر بعضهم بعضًا. ومن ذلك المعنى تنبت سائر المآسي في حياة ذلك الجنس وتطوراته، فعبء الحاجة والمحتاجين لم يتناقص قط في عصور التاريخ كلها، وهو يفوق بكثير تقدم وتطور الحضارة الحالية بوضعها الراهن نتيجة الزيادة الهائلة في تعداد سكان الأرض وعجز قدرات الدول والشعوب عن ملاحقة تلك الزيادة والتغلب عليها، وهو عجز لا يزال موضوع تغافل وتناسٍ وإهمال وقلة مبالاة، رغم أنه يحمل أفدح وأفظع المخاطر على استمرار بقاء الجنس فضلاً عن استمرار تقدمه، لأن الحضارة الحالية دائبة على نشر التعلم والتعارف في العالم كله وإزالة الفجوات والمسافات والصعوبات التي تعوق اتصال الشعوب بعضها ببعض، دون أن تلتفت أو يدخل في حساباتها أن ذات هذا المسعى الدائب يجمع في ذات الوقت المحتاجين وحاجتهم في العالم بأسره، ويوحد فيما بينهم الشعور العارم بالقرابة ووحدة الحال والمآل وما يعانون من ظلم وقسوة وغباء، وأنهم لذلك يمضون في طريقهـم وحدهم دون أن يفارقهم الشعور بالمعاناة والظلم والقسوة، وهو شعور يؤدى إلى تخريب دنيا البشر إن لم يتحد العقـلاء المبصـرون وينجحـوا في وقف الكارثة وتغيير الأحوال !!

وبعد إلغاء الرق في النصف الثاني من القرن قبل الماضي ـ لم يخطُ العالم المتحضر خطوة فاعلة لإلغاء الأصل الذي ترتب عليه الرق، وهو الضعف والحاجة والقوة والسطوة، فبقى المحتاجون على حاجتهم وزاد عددهم، كما زاد تعرضهم للحاجـة والهوان وخضوعهم لضغط القوة والسطوة وعدم المبالاة !

كذلك لم تنجح الملل والأديان في الوصول لعلاج شافٍ لدوام وجود الحاجة والمحتاجين في كافة المجتمعات البشرية طوال العصور والدهور، برغم أن بناة الأديان والملل كانوا من أشد الخلق فهمًا وعطفًا وانحيازًا للمحتاجين في زمانهم، وغاية ما انتهت إليه الأديان والملل في هذا الصدد هي إقامة الأديرة والتكايا والخلايا والمستوصفات والملاجئ، فبقى جيش المحتاجين على حاله من الحاجة، وزاد كثرة على كثرة، برغم سعى الأديان والملل لحث القادرين على بذل صدقات لا تجدى ولا تغنى جحافل الاحتياج البائسة في عالمنا المعاصر !!

وما يشاهد اليوم هنا وهناك من كثرة المؤسسات والجمعيات الاجتماعية والخيرية وكثرة العقائد والنظم والنظريات والمبادئ في علاج سلبيات المجتمعات الإنسانية، كل ذلك فيما يبدو قليل الجدوى إزاء الزيادة المطَّردة في عدد أفراد كل جماعة بالنسبة لما تتيحه الجماعة أو يمكن أن تتيحه في ظروفها الراهنة، لأن الخلل في توزيع ثمار الإنتاج مع التسليم بوجود أسباب لهذا الخلل يستحيل وحده أن يتسبب في وجود المحتاجين الذين هم غالبية الناس عددًا في كل مكان، فالبشر بعامة أغنياء وفقراء ينبغي أن يزيدوا إنتاجهم في كل بلد زيادة هامة محسوسة ليحموا الأغنياء وغير الأغنياء من احتمال الانفجار بفعل جيش المحتاجين الذي يبدو الآن أنه يتحرك نحو هذا الانفجار !!

وإذا كان يسوغ أن يوجد غير الغنى إلى جوار الغنى في أية جماعة، فإن وجود المحتاج ينطوي على أذى وهمجية وإنكـار لمعنى المساواة في الحياة والاعتراف بحقوقها لكل البشر، ومنها حق كل آدمي في أن يجد ما يكفيه مما يمكنه الحصول عليه بسعيه المشروع في عالم لم يعد فيما يبدو يفسـح مجالاً إلاّ للأقوياء !!!

ولا تستطيع البشرية ـ فذلك شرود جسيم ـ أن تتجاهل الاحتياج والمحتاجين، ولا أن تعطـى هـذه المسألة ظهرهـا أو تغضى عنها، لأنه عمى ضرير لا يقبل عليه العقلاء.. أمام تفاقم الاحتياج، وإدراك الحكومات أنها بمثابة غول يأتى على الأخضر واليابس، ويهدد بخروج قطاعات كبيرة من المجتمعات عن التناغم العام، وبما قد يصاحبه من احتمالات الجنوح بأشكاله وصوره ومحاذيره، وأمام الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية، تلجأ الحكومات إلى محاولة رأب ولو بعض الصدع، ولذلك اعتادت الحكومات في البلاد المتمدينة أن تقدم معونة للعمال العاطلين في أزمات البطالة حتى تجنبهم شـرور الاحتياج لانقطـاع أرزاقهم ـ هذا التدبير تدبير وقتى لا يحول دون تكرار تلك الأزمات، لأن معظمها يبدو خارجيًا طارئا إذا لم نحسب حساب المغامرة وسوء التقدير من جانب أرباب الأعمال الذين اعتادوا العمل في ميادين تسودها الاحتمالات المفاجئة والتغيرات غير المنتظرة !

بديهي أن كل دين ومعرفة وعلم وفلسفة وأدب وفن وصناعة وتجارة ومهنة وحرفة، مقصوده الأساسى هو الجماعة العديدة أى المجموع العام، وليس هذا الفرد أو ذاك أو هذه المجموعة من الأفراد أو تلك ـ فالجماعة مقصود كل شىء بشرى ذى قيمة أو وزن أو خطر في حياة الآدميين، وتجاهل هذا المقصود الرئيسي ليس إلا شرودًا وإساءة استعمال للقوة والذكاء والدهاء الذي يستند إلى شىء من ذلك لإعلاء قيمة ذاته وإسقاط منزلة الجماعة !!

هذه البديهية عرضة باستمرار في حياة البشر للإغماض والإغفال والاستهانة، بل والمهانة أحيانًا، وقد أدى هذا وما زال يؤدى إلى ما لا عدد له من الصعوبات والمشاكل والمآزق والقلاقل والنكبات والويلات والتدمير والإفناء، ويعين على تكرار ذلك اعتياد البشرية على النسيان والاستخفاف والاستهانة والانشغال بالتافه والوقتي والعارض والشخصي، وغياب الانتباه إلـى الأشياء الأساسيـة التي هي عمـاد ورأس مال البشرية !

إذ يستحيل مثلاً الفهم الكافي لمعنى الدين ـ وهو في الدرجة الأولى معنى اجتماعي ـ إلا بالإقرار الصادق الصادر من القلب بمكانة ولزوم الجماعة المعتنقة له، ومحافظة كل فرد داخلها بحسب طاقته واستنارته على بقائها وبقاء قوتها..

للتأمل : ماذا كان يمكن أن يكون مذاق الحياة إذا مضت بلا آمال ولا أحلام ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى