الإمام الطيب والقول الطيب (6)
من تراب الطريق (1174)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 7/9/2021
بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
الإمام الطيب والقول الطيب (6)
أصل هذا الفصل، كلمة أُلقيت في 8/5/2010 بالملتقى الخامس للرابطة العالمية لخريجي الأزهر، عن الإمام الأشعري، وجمعه كلمة المسلمين.
ويتساءل الإمام الأكبر ليجيب، ما جدوى عقد الملتقى بما يكلفه عن الإمام أبى الحسن الأشعري الذي توفي تقريبًا عام 330 ه /941 م، أي منذ مائة وألف عام. ثم ما الجدوى التي يرجوها المسلمون في محنتهم من مؤتمر كهذا، وقد تمزق شملها، وانعزلت عن سباقات عصرها وتحدياته، بعد أن كانت ملء سمع الدنيا وبصرها ؟!
واقع الأمة الإسلامية الآن يذكر بواقعها أيام الإمام الأشعري، ومن ثم يؤكد حاجتنا إلى منهج كالمنهج الذي أنقذ به ثقافة المسلمين وحضارتهم السالفة، فالظروف التي واجهته تكاد تتماثل مع ما نواجهه الآن. مذاهب مغلقة، تدير ظهرها للعقل وضوابطه، وآخرى تتعبد به وتحكمه في كل شاردة وواردة، حتى لتكاد تضع نفسها قبالة الدين، حتى فيما يتجاوز حدود العقل وقدراته، وثالثة تحكم الهوى والسياسة والمنفعة، وتخرج بعقائد مشوهة تحاكم بها الناس وتقاتلهم عليها.
حين وُلد الإمام الأشعري بالبصرة سنة 260 ه كان لمذهبين سائدين آنذاك دور حاسم في ظهور مذهب الإمام الأشعري: مذهب المعتزلة، ومذهب الحنابلة على النقيض منه.
المعتزلة كما هو معروف تعول في مذهبيها على العقل وأحكامه، بيد أن إفراطهم في التمسك بالمنهج العقلي بصرامة، انتهى بهم إلاًّ مقالات تجرح مشاعر كثير من أهل الورع والتقوى.
من ذلك قولهم بالوجوب على الله تعالى، ولازم ذلك إنكار الشفاعة عقلًا، وموقفهم من مُرتكب الكبيرة، وأنه بمنزلة بين المنزلتين، وقولهم إن القرآن مخلوق، وإنكارهم أن يتصف الله بصفة الكلام قبل أن يخلق الإنسان المخاطب بهذا الكلام المحدث.
وقد كان يمكن أن يخف الاشتباك لو بقيت هذه المقالات وقفًا على الدرس والعلم والبحث، ولكن لأن الدولة آنذاك كانت تتبنى مذهب الاعتزال، فإنها خرجت بمذهبهم من إطار الدرس إلى فرضه على الناس فرضًا، والعمل على نشر المذهب وإقصاء ما سواه من المذاهب الإسلامية المشروعة.
واتسعت المعركة حتى صارت محنة، دفعت الأمة ثمنها، واكتوى بنارها أهل الفقه والعلم، لا سيما في عهد المأمون الذي كان على هذا المذهب، وقرب إليه علماء الاعتزال، وتعقب المخالفين بالإقصاء وبالسجن والتعذيب والتنكيل، ومنهم من مات في سجون المأمون والمعتصم.
وغير بعيد، أن الإمام أحمد بن حنبل، ضُرب بالسياط حتى سال دمه، وسُجن وعُذّب، وكاد أن يُقتل ضمن الممتنعين عن القول بخلق القرآن، لولا أن استبعده المتعصم من القتل.
واستمرت هذه الفتنة حتى جاء المتوكل، فقلب للمعتزلة ظهر المجن، وطاردهم وطارد مذهبهم، وعاقب من يرى رأيهم.
وكان منطق هذه التداعيات أن يتصدر الساحة المذهب الحنبلي المقابل الذي يقرر أن القرآن قديم غير مخلوق، وقد كان، وتسلط الحنابلة كما تسلط المعتزلة، وأدى ذلك إلى الغلو والتجسيم إلى الدرجة التي ينفر منها المؤمن المنزه لله تعالى.