الإسلام والعرف والعادات
الإسلام والعرف والعادات
نشر بجريدة الشروق الخميس 15/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من ثراء مصادر الشرع الإسلامي واتساع نظره، أن أخذ إلى جوار المصادر الشرعية الأصلية، بعد القرآن والسنة والإجماع وفتوى الصحابي والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ــ أخذ بالعرف الصحيح مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، فضلاً عن شرع ما قبل الإسلام فيما لا يخالفه.
وتجرى كلمة العرف على لسان الناس، العامة والخاصة، ومتداولة من قديم في المجتمعات، والمقصود به ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، من قول أو فعل أو ترك، في عاداتهم ومعاملاتهم، على أن العرف له معنى اصطلاحي لدى رجال القانون بعامة، ولدى الشرعيين والأصوليين بخاصة.
والعرف من الأدلة الشرعية عند الفقهاء، وإليه يتم الاحتكام في كثير من أحكام الفقه الفرعية، وهو آية على ثراء الشريعة الإسلامية وقدرتها على مواكبة الحياة، واتساع نظرتها. ومن العرف ما هو عملي، ومنه ما هو قولي. فالعرف العملي مثل اعتياد الناس بيع المعاطاة من غير صيغة لفظية، وتعارفهم على قسمة الصداق في الزواج إلى مقدم ومؤخر. والعرف القولي مثل تعارف الناس على إطلاق لفظ « الولد » على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على ألا يطلقوا لفظ « اللحم » على الأسماك.
والعرف العام يتكون بتراكم ما تعارف عليه الناس على اختلاف طبقاتهم، عامتهم وخاصتهم، وهو غير الإجماع كمصدر للأحكام الشرعية يلى الكتاب والسنة، ذلك أن الإجماع لا دخل للعامة في تكوينه، وإنما هو اتفاق المجتهدين خاصة.
فمصدر تكوين العرف ما اعتاده وتعارف عليه الناس، والأصل في الاعتداد به، لدى الأصوليين، في غير موضع النص، إن كان صحيحًا غير فاسد، مستمد من قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: « ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن »، ولأن مخالفة العرف الذي اعتاده الناس وسارت عليه أمورهم، فيه حرج ومشقة وإعنات، بينما يقول اللطيف الخبير: « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (الحج 78).
وقد دخلت الإسلام عند ظهوره أمم شتى، لكلًّ منها عادات عريقة وآداب وأعراف موروثة، فتَعوَّد المسلمون من البدايات أن يوسعوا أكناف الإسلام للأعراف التي لا تتعارض معه أو تناقض مبادئه وأحكامه، وأعفتهم هذه النظرة السمحة من الجمود، واحتفل المسلمون بالنيروز ولبسوا الطيلسان وأكلوا في الأديرة، وركبوا البراذين والفيلة، وتعاملوا بالدراهم والدنانير، وسكنوا البيوت من بناء القبط والروم، ولازمتهم هذه السماحة في العرف صدرًا من الدعوة ومن الدولة الإسلامية الأولى.
وقد نحى بعض الدخلاء إلى التستر من وراء عاداتهم ومراسمهم لترويج العقيدة التي تلازمها والتمهيد للدولة التي تقوم عليها، فبدأ التفات المسلمين بحذر إلى كل ظاهرة مجوسية أو بيزنطية جعلت تستأنف ظهورها في البيئة الإسلامية، وتحول هذا الحذر إلى شك ثم إلى إنكار للغريب من هذه الظواهر والعادات حين تعرضت الأمم الإسلامية للإغارة عليها.
وتحرج المسلمون من الظواهر والأشكال الأجنبية في هذا الدور تحرجًا لم يتعودوه في أيام القوة أو في أيام الفتنة والحذر، حيث شعروا بهذا الحرج في فترات الهزيمة أو الخضوع، مما أدى إلى الشك والنفور.
بيد أن هذا الحرج لم يكن شرًّا كله، وإن كان فيه شرٌّ كبير لم ينج المسلمون من عقابيله إلاَّ بشق الأنفس.
وقد كان بعض هذا التحرج صادرًا من حصانة الإسلام، وهي سجية يستمدها المسلم من استقلاله بضميره ومن شمول عقيدته التي لا تفصل الدين عن الدنيا.
وربما هان على صاحب الدين الذي يفصل العقيدة عن عمل المعيشة، أن يخضع لمن يخالفونه في الدين والجنس واللغة لأنه يتعزى عن ذلك باحتقار الدنيا والفرار بروحه منها، ولكن عقيدة المسلم تأبى له هذا العزاء لأنها لا تنفصل عن الدنيا وتلقى في روعه أن الله محاسبه على تفريطه في مكانته التي حققها الله له بهذا الدين.
« وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ » ( الأعراف 10 )
« وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا »( النور 55 ).
* * *
فإذا ما حاقت هزيمة بالمسلم، واستبيحت عليه حوزته، علم أن خسارته في دنياه ودينه، وأنه لم يبق له عزاء غير الأمل في الخلاص من هذه المهانة، وداخله نفور تحرز معه من محاكاة أى شىء من الأمم الغالبة.
ولعل ابن خلدون كان أول من نبه المسلمين إلى هذه الخلة في المغلوبين وعدّها من تمام التسليم للغالبين بالغلبة والانهزام أمامهم، فوقر في الأذهان أن محاكاة الغالب ضرب من التسليم وعارض من عوارض الفناء على غير أمل في الخلاص.
ولكن هذه الحصانة الصحيحة الكفيلة بالسلامة، ما لبثت أن امتزجت بعوارض الجمود والخمول فأصابها ما يصيب الفضائل جميعًا من المسخ والتشويه كلما فارت العزائم وسقطت الهمم ورانت الحيرة على العقول، فامتد التحرج من المحاكاة بعامة ـ إلى التحرج حتى في المحاكاة في « أسباب القوة » التي غلب بها الغالبون.
ومع استبداد العجز بالنفوس في تلك الفترة، كثر التساؤل عن أمور لم تكن موضع سؤال في صدر الإسلام، وليست بل ولا يجوز أن تكون موضع سؤال في أوليات القرن العشرين، فيسمع الناس عن استفتاءات في الكبريت هل يجوز قدحه ؟ وعن غاز الاستصباح هل تجوز الإضاءة به في المساجد ؟ وعن التليفون هل يجوز وضعه في المعاهد الدينية ؟ وعن الجغرافيا وعلوم الطبيعة هل يجوز تعليمها للتلاميذ ؟ وصار حال هؤلاء المتحرجين كمن يعيشون في سجن مغلق يخشون أن يمدوا أصبعًا إلى خارجه فتنطلق منه الشياطين المتربصة !
على أن هذه الغاشية لم تدم إلاَّ ريثما تجددت الثقة في النفوس، وثبتت الأقدام على منهج الإصلاح الذي أزال كثيرًا من أسباب التخلف والجهل والجمود الذي مد الإحراج إلى مواضع لا محل للتحرج فيها.
ويروى الأستاذ العقاد في كتابه عن فريضة التفكير في الإسلام أنه في البلاد العثمانية الخاضعة للآستانة ـ سبق الشعب رؤساءه إلى مجاراة الحضارة ومسايرة العرف العصرى في شئون المعيشة، وأنه في مصر كان الخلاف على أشده بين الخديو وحواشيه وبين أئمة الإصلاح وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية، وكان باطن الخلاف حول الرقابة على أموال الأوقاف ووظائف التدريس بالأزهر وبرامج التعليم فيه، وظاهر هذا الخلاف على سفاسف لا تعنى الخديو وحواشيه ولكنها ذريعة يستخدمونها لإثارة الغبار حول المصلحين لاتهامهم بسوء النية وبأنهم يفتاتون على ولى الأمر وأعوانه المخلصين.
فتوى الترنسفال !
ومن أشهر ما افتعل من معارك، ما أدير حول الفتوى التي أفتاها مفتى الديار المصرية وعرفت بفتوى الترنسفال، وخلاصتها الموجزة أن رجلاً من الترنسفال سأل المفتى الشيخ محمد عبده عن بعض عادات اللبس والطعام في أفريقيا الجنوبية، وعن جواز الصلاة خلف الإمام مع اختلاف المذاهب ـ فأفتاه الشيخ رحمه الله بالفتوى الصحيحة بنص القرآن الكريم « وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ » ( المائدة 5 ) إلى آخر الآية، وأنه لا وجه للاعتراض على الصلاة خلف الإمام بدعوى اختلاف المذاهب، لأن تخصيص مسجد لصلاة أتباع كل مذهب يفرق جماعة المسلمين ولا يستند إلى أصل من القرآن أو السنة أو سير الأولين.
ووسط معارك مصطنعة فيما لا يقع عليه خلاف، ينتهز الخديو الفرصة لتحقيق أغراضه في إزاحة المفتى، فيصدر بيانًا بدعوى الغيرة الدينية يقول فيه إنه كان يظن أن مجرد ظهور هذه الفتوى كاف لإسقاط نفوذ المفتى الدينى أو عزله، ولكنه صُدم حين ظهر له خلاف ذلك !
وخلاصة ما أراده الخديو، أن يجعل لنفسه هو سلطة دينية آلتها الأزهر وماليتها الأوقاف التي قاتل من أجلها قتالاً شرسًا. وكان المفتى هو العقبة في طريق هذا المطمع أو هذه السلطة، ومن ثم يتعين إزاحته !
* * *
ليس من روح الإسلام فيما يختم الأستاذ العقاد هذا الحديث أن يتجمد المؤمن على عادة موروثة لمجرد أنها موروثة، أو أن يرفض عادة جديدة لمجرد كونها جديدة، ولكنه يعتصم من روح الإسلام بحصانة وهداية ترشدانه إلى الأصوب في كل مجال، وسبيله أن يأخذ بالعفو، ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين..