الإسلام والطاقة الروحية (3)
من تراب الطريق (916)
الإسلام والطاقة الروحية (3)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 18/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
والتجمعات الدينية ليست مجرد احتشاد وازدحام، وإنما هي نية وقصد وإرادة واتجاه إلى الله عز وجل.. ولا يتحقق ذلك إلاّ بتمثل هذه المعاني التي هدى إليها القرآن المجيد ونبه إلى وجوب تنقية هذه التجمعات الدينية مما يفسدها.. فيقول رب العزة: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (البقرة 197).. فكل من هذه الشوائب يعارض بل ويقاوم الطاقة الروحية، ويفسد القصد والمناخ المناسب لها.. وإذا فشا أي من هذه الشوائب في أي تجمع ديني مزق روح وخطوط قوى التجمع وأبطل أو قلص تأثير الطاقة الروحية، من أثر التدافع والتصارع على المناسك وأماكن العبادة أو المشاهد.
حين يسلم التجمع الديني من الرفث والفسوق والجدال، يتخلص من المعوقات ويصبح مجالاً قويا للتأثير.. يتوقف حجم وشدة قوته على كثرة العدد وتشابه المشتركين في المظهر والنداءات والابتهالات.. يسهم في ذلك نشاط الطاقة الروحية الكامنة التي تسري من الفرد إلى المجموع، وتتزايد قوتها وأثرها بالتضافر بين المشتركين في المراسم بل ولدى المشاهدين لهم.. وفي الأثر: «إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين.. وأحبها إليه سبحانه ـ ألينها وأرقها».
والإنسان جيد التوصيل للطاقة الروحية هو آنية الله.. يألف الناس ويألفونه.. ويحبهم بإخلاص ويحبونه.. لأنهم يجدون عنده راحة الخاطر، والأمل والثقة، وأمثال هؤلاء الذين وهبوا اللين والرقة، الآلفين والمألوفين، قال فيهم الحديث الشريف: «المؤمن آلف ومألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف» أمثال هؤلاء شاءت رحمة الله ألاّ تخلو الأرض منهم.. تقل أعدادهم أو تزيد تبعا لمقدار ترحيب البيئة بهم.
يُروى عن أبي بكر الصديق أنه وصف أبا عبيدة بن الجراح لمن سألوه النصح والتوجيه، فقال لهم: «عليكم بالهين اللين، الذي إذا ظُلم لم يظلم، وإذا أسئ إليه غَفر، وإذا قُطع وَصَل، رحيم بالمؤمنين.. عليكم بأبي عبيدة بن الجراح».
والإنسان اللين الخلق، الآلف المألوف، إنسان موهوب، حظه من الطاقة الروحية كبير وكثير.. فهذه الطاقة الشديدة هي التي تعطيه هذه القدرة الفياضة على التواصل مع الناس، دون أن يضيق صدره أو يعيل صبره أو يفتقر حلمه.
هذا الإنسان لا تتناهى مجالات تأثيره التي تنشط فيها طاقته الروحية، وينطلق منها جانب حر على هيئة تيار روحي متتابع النبضات.. يختلف شدة حسب الأحوال إلى من يتصلون به أو يقتربون منه.. فالعبادات الفردية والصلات الاجتماعية العادية ومصافحة الأيدي لأيدي الناس وقلوبهم وعقولهم، مجالات تأثير تنشط فيها الطاقة الروحية فائقة الوفرة.. بل إنها تنشط لمجرد سماع الألفاظ والعبارات وأصوات الأدعية أو الضراعات أو الابتهالات والترتيلات.
وفى هذا الباب تختلف قوة الموهبة والعطية الإلهية.. ويتدرج صاحبها ارتفاعا في نعمة الله تبارك وتعالى وفضله، إلى أن تصير ذكراه أي تذكره حيّا أو ميّتا، مجالاً واسعًا وقويًا في ذاته لتنشيط الطاقة الروحية لدى محبيه أو لدى من يتذكره أو يذكر أمامه من عباد الله العاديين المستورين.. وهذه العطايا الإلهية، هي باب غير مباشر للتقريب بين المؤمنين الذين يتلاقون بغير ترتيب ولا قصد على مصادر إشعاع هذه الطاقة الروحية التي تأتلف وتتجمع عليها القلوب.