الإسلام والطاقة الروحية (2)
من تراب الطريق (915)
الإسلام والطاقة الروحية (2)
نشر بجريدة المال الاثنين 17/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
يوجد في الطاقة الروحية شيء يشبه مجالات التأثير المشاهدة في ظواهر الطاقة الطبيعية.. ويوجد نوع أو أنواع من المجالات تقوى فيه طاقتنا الروحية الكامنة وتشتد.. منها على سبيل المثال بعض مشاهد الطبيعة الحيّة وغير الحيّة.. ومنها بعض أشكال الطقوس والمراسم.. ومنها بعض الآثار والإنشاءات كالمعابد والمزارات.. أو التجمعات كالحج وصلوات الجماعة.
والطابع المشترك في هذه المجالات أنها على خلاف مجالات الطاقة الطبيعية، لا تعمل بصفة آلية مباشرة في الجزئيات والذرات ومكوناتها.. وإنما تعمل في طاقتنا الروحية الكامنة وفي وعي الإنسان وعواطفه، في الطرق الموصلة من خارج الإنسان إلى أعماقه.
والقرآن المجيد يضاعف في بيانه الرفيع من تأثير مشاهـد الطبيعـة بالتذكيـر القوى البليـغ بها.. «وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ».. «وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ».. «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا».. «وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى».. «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ».. «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ».. «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ».. «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا».
ومن يتأمل في هذه المشاهد، ويرقب الشجرة، يجدها تمد أوراقها وأغصانها إلى ضوء الشمس.. وتشغل مكانًا مقدرًا لها من قبل في الأزل، وتبسط مع الأوراق والأغصان ما هو مطلوب وتحتاجه الحياة منها.. تثمر ثمارها وتورف ظلها وتهيّئ للطيور أوكارها وأعشاشها.. وفى مساقط الأمطار وحرارة وعرى الخريف وبرد الشتاء.. كل شيء فيها محسوب بدقة.. وهذا النظام والتنظيم والتقدير رحمة في نظر الإسلام.. مبنية على رحمة.. وآية من آيات الخالق الذي تتجلى رحمته في إبداعه وصنعه وتقديره وترتيبه.. فلا تصافح قدرة الله مخلوقاً دون أن تصحبها رحمته.. وهذه الرحمة هي جسر يسع الناس جميعًا.. ممدود من الأزل إلى الأبد.. عليه يلتقي المؤمنون بلا واسطة.. في اتجاه الواحد الأحد، الملك القدوس، العزيز الجبار.. سبحانه وتعالى.. رب العالمين.
ونعرف ما تبثه الطاقة الروحية في المسلم، حين نفهم أن رحمة الرحمن، ليست في الإسلام رحمة نظامية إحصائية للمجاميع والأنواع في عمومها الذي قد يشبه نفع المرافق والخدمات العامة والمزايا الاجتماعية، وإنما رحمته سبحانه وتعالى، رحمة حيّة موجهة قصدًا إلى إنسان حي.. تعرفه الرحمة تمامًا وتقصده قصدًا.. يلفت محمد عبد الله محمد إلى أن هذه الرحمة ليست معنًى مجردًا، ولا تقف عند المجردات، بل هي رحمة من الله الحىّ القيوم، لا تشبه علاقة الدول أو الحكومات أو الأوطان لشعوبها، أو علاقة الأحزاب بأشياعها، وإنما تشبه إن جاز التشبيه لمجرد التقريب، تشبه في حرارتها واختصاصها رحمة الأم أو الأب أو الصديق الصادق.
والله تبارك وتعالى لا يعامل عباده بالجملة على أساس إحصائي من باب الاقتصاد الذي يجري عليه البشر والحكومات توفيرًا للجهد والمال، فهو جل شأنه أعظم وأغنى من أن تخضع رحمته إلى هذه القياسات.. «أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» (سورة 9).. «وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ» (المنافقون 7).. «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ» (الحجر 21).
وكثيرًا ما ينسى معظم الناس أهمية الطاقة الروحية حينما يعترض فكرهم على الأشكال والطقوس والمراسم، لأنهم لا يرون منها إلاّ الجانب الآلي وما ينفق فيها من جهد، ولا يتعمقون روحها ومعانيها ولا يلتفتون إلى تنشيطها للطاقة الروحية الكامنة في كل منهم، وهذه الوظيفة تجاوز في قيمتها وأثرها ما ينفق في الطقوس من وقت وجهد أو مال.
كذلك الآثار والإنشاءات، من مساجد وجوامع ومزارات.. فهي قد تكون مجالاً لتأثيرات قوية تنشط الطاقة الروحية وتقويها، ونجاحها في ذلك يعوض وزيادة ما أنفق فيها أو عليها.