الأهراماتُ والملكيَّةُ الفكريَّة بين حلاوة الحُلْم ومرارة الواقع القانونيِّ
بقلم: ياســر عمر أميـن، محامٍ وباحثٌ في مجاليِّ الملكيَّة الفكريَّة وقانون سوق الفنِّ
أشعرُ أنَّ الوقت قد حان مناسبًا لأتحدثُ عن قضيَّة “نَسْخِ أهرامات مصر” العريقة تلك التي سُجِّلت كواحدةٍ من روائع الدنيا، وفي ظلِّ ذا التحدي السافر الذي تعايشتْه وتتعايشُه البلادُ أجدُ أنَّ خواطري تطرقُ رأسيَ بمطرقة الأفكار، وكأنَّ أبتْ الأفكارُ إلا أن تَظهرَ وتطفوَ على سطح ذا المقال لتدفعُني قسرًا إلى ضرورة مناقشة العلاقة الحاكمة بين “الملكيَّة الفكريَّة” و”قضيَّة نَسْخِ الأهرامات”. إنَّ المتأمِّلَ لتلك العلاقة يجدُ أنَّ من ورائها ستأتي حقيقةٌ خفيَّةٌ تَتَهَادى حاملةً في ثوبها العلاقةَ بين القانون والحِسِّ أو الشعور.
لا شكَّ أنَّ مجردَ ذكر كلمة “أهراماتٍ” لهو كفيلٌ لأن تتداعى الأفكارُ على الذهن وتُدغْدِغُ شعورَ القارئ، إذ سرعان ما تُشْعِلُ في نفسه حرارةَ الانتماء وحُبَّ الوطن ليصطدمَ ذا الشعورُ الـمُقدَّرُ بكتلةٍ حرجةٍ تتمثَّلُ في صخرة القانون الجامدة تلك التي قد يَعجزُ فيها الشعورُ عن الانصهار في بوتقة القانون. وهنا يَطرْحُ السؤالُ نفسَه استجابةً لذلك الشعور الفياض والانتماء اللَّامحدود: هل يجوزُ لنا -كمصريين – حمايةُ صرح الأهرامات من خلال آليَّة حقوق الملكيَّة الفكريَّة ضد عمليَّات النَّسْخ المتكررة ؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل تَمْلِكُ مصرُ بالفعل حقوقًا عليها كحقوق المؤلِّفينَ بحيث يُخوَّلُ لها حقًّا استئثاريًّا في منع أية عمليَّة استنساخٍ للطابع الهرميِّ دون الحصول على ترخيصٍ مسبقٍ ؟
إنَّ أقلَّ ما قد يُجسِّدُ ذلك الشعورَ الوطنيَّ هو عبيرُ كليْمات عالم المصريَّات الفرنسيِّ كلود إيتيان سافاريSavary (1750-1788) في رسائلَ له كُتِبَتْ خلال رحلته لمصرَ إذ قال: “لم تَكُدْ أقدامُنا تطأُ رُبعَ فرسخٍ إلا وشاهَدنا قمَّةَ الأهرامات (…). إنَّ مرأى هذه الآثار القديمة التي صمدت أمام دمار أممٍ وسقوط إمبراطورياتٍ وما أفسده الزمانُ كفيلةٌ لأن تُلْهِمَ نوعًا من التَّبجيل والإجلال. فبإلقائك نظرةً على تلك القرون التي مرَّت أمام صلابتها الراسخة تجعلُ النفسَ تَقْشَعِرُ باحترامٍ لا إرادي. تحيَّةٌ لآخر عجائب الدنيا السبعة ! تكريمًا وشرفًا للشعب القوي الذي شيَّدَها !”
وفي الحقيقة إنك بتأمُّلك لهذه العبارات تجدُ نفسك وقد انتابتها هِزِّةٌ شعوريَّةٌ لا إراديَّةٌ تجعلكَ تفكِّرُ: هل يا تُرى سيتَّفِقُ ذا الإحساسُ مع القانون ؟ تتأرجحُ الإجابةُ بين النفي تارةً والإيجاب تارةً أخرى، إذ أنَّ المفهومَ التقليديَّ لتلك الصخرة الجامدة المسماة بــ”القانون” لا يضعُ في الاعتبار – في أحايين كثيرةٍ – شعورَ صاحب الحقِّ (الشخصُ)؛ ذلك لأنَّ القانونَ مجردٌ من الأحاسيس كي يتمكنَ من فرض قبضته القوية ويكونُ قادرًا على حُكمه في إطار نظامٍ قانونيٍّ مُلْزِمٍ. وفي ظلِّ الصحوة التي طالت أركانَ الممتلكات التراثيَّة والثقافيَّة بمفرداتها يَنْسَلِخُ من بين نسيجها قضيَّةُ «نَسْخ الطابع الهرميِّ» والتي تجلَّت من خلال مناداة خبراءٍ أثريين كُثرُ وغيرهم من الغيورين على تراث بلادهم نحو تفعيل قوانين الملكيَّة الفكريَّة والآثار كي تحميَ وتحصِّنَ آثارَ أجدادهم التي تحدَّت بعبقريتها غدرَ الأزمان.
ولعلَّ من أهمِّ الأسباب التي جعلت قضيَّةَ نَسْخ الأهرامات تطفو على السطح في تلك الآونة هو تباري وتنافسُ العديد من البلدان لاستنساخ رموز الحضارة الفرعونيَّة المصريَّة التي تتعرَّضُ – بلا شكٍّ – ومازالت لمؤامراتٍ متواليةٍ لا تَكُفُّ عن محاولة انتهاك حقوق الملكيَّة الفكريَّة لمصر على آثارها بشكلٍ فجٍّ يُسْتَهدَفُ من ورائه الاستغلالُ التِّجاريُّ بكافة أشكاله، وقد تجاوزَ الأمرُ إلى حدِّ السطو على المباني ذات الطابع الفرعونيِّ والشكل الهرميِّ على وجه الخصاص، فقد انتشرَ مؤخرًا في اليابان والصين والولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا استنساخُها حتى وصلَ عددُ هذه المنشآت المستنسخة هرميًّا إلى ما يُقاربُ الثلاثين بنايةً معماريَّةً.
إنَّ المحاولات الجادةَ والمتعددةَ التي تقومُ بها الدولةُ لا شكَّ كان هدفُها راقيًّا يُسْتَهدَفُ من خلاله حظرُ إمكانية نَسْخ القطع الأثريَّة المصريَّة والعملُ على تحصينها من هؤلاء الذين يعتدون على حقوق آثارنا والتصدي لكلِّ الأعمال التي تَسْتَهدِفُ أغراضًا تجاريَّةً بحتة كي تستفيدَ الدولةُ من حقوق الملكيَّة الفكريَّة على الآثار في تحقيق إيراداتٍ تسْهَمُ في ترميم الآثار ورعايتها وحمايتها. وإذا كان الأمرُ كذلك فهل لنا أن نعتبرَ أنَّ فندقَ وكازينو الأقصر بمدينة لاس فيغاس الأمريكية وكذا مُتْحَف اللوفر وغيره من الأبنيَّة – التي تُعَدُّ نُسْخةً طبقَ الأصل من الأهرامات – يُشكِّلُ اعتداءً على حقوق مصر ؟
في الحقِّ، وعلى الرغم من أنَّ القضاءَ المصريَّ قد استقرَّ في حكمٍ تاريخيٍّ لمحكمة استئناف مصر بتاريخ 11 من يناير 1942 أنَّ “حقَّ الدولة في الملكيَّة الأدبيَّة كحقِّ الفرد، وأنه ليس هناك ما يمنعُ من أن تملكَ الدولةُ أملاكًا أدبيَّة كما تملِكُ أملاكًا ماديَّةً” إلا إنَّ الإجابةَ التي قد ينتظرُها القارئُ منا على ذا التساؤل قد تأتي على غير هوى أمنيته، ذلك أنَّ المتابعَ لقانون الملكيَّة الفكريَّة الذي طالما رسَّخَ أقدامَه على أرض الواقع ليجدُ العجبَ، إذ يُخيَّلُ إليه للوهلة الأولى أنَّ ذلك الطابعَ أو الشكلَ الهرميَّ سيكونُ محميًّا بحكم القانون. وبين أمانيِّ الخبراء ومرارة القانون تكمنُ الحقيقةُ العَلْقَمِيَّةُ وهى في الحقِّ صعوبةُ التوفيق بين ذا الشعور الوطنيِّ الجامح، وقبضة القانون الآَمِرَة ذلك لأنه إذا كانت قبضةُ القانون الآَمِرَةُ تُبْسِطُ قبضتَها على حقوق الملكيَّة الفكريَّة باقتدارٍ إلا أنها للأسف الشديد لن تستطيع أن تُبْسِطَ نفسَ القبضة على شعور وأحاسيس الخبراء تجاه آثارهم، فالطابعُ الهرميُّ في حدِّ ذاته كالسائل إذا أردتَ أن تُطبِّقَ عليه حقوقَ الملكيَّة الفكريَّة فستجدُه سوف ينسابُ وينسالُ من بين قبضة القانون.
وذا كَنْه واقع تفعيل مبادئ قانون حقِّ المؤلِّف تجاه الطابع الهرميِّ الذي نودُّ أن نُزيحَ عنه النقابَ لتظْهَرَ لنا تلك الحقيقةُ المؤلمةُ التي تُعَدُّ في جوهرها تطبيقًا للواقع القانونيِّ والمنطق السليم وذلك على عكس ما هو متعارفٌ عليه من أنَّ لمصرَ حقوقَ ملكيَّةٍ فكريَّةٍ على آثارها. فحتى لو سلَّمنا أنَّ هناك تشابُهًا ما بين مبنى الكازينو الذي بُنِيَ على شكلٍ هرميٍّ وبين الأهرامات كأثرٍ لما استطاعَ المسئولون عن الآثار أو غيرُهم أن يطالبوا بحقوق المؤلِّف على المنشآت التي تُؤسَّسُ بُناءً على الطابع الهرميِّ في حدِّ ذاته.
إذ من الملاحظ أنه لا يمكنُ أن يُتصورَ إنشاءُ احتكارٍ على فكرةٍ أو شكلٍ ما لأنَّ ذلك يُعَدُّ من قبيل الخطر الداهم، لذا فلن يستطيعَ أيُّ شخصٍ سواء كان شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا أن يدَّعيَ امتلاكَه أو احتكارَه لهذا الطابع الهرميِّ في إطار قاعدةٍ أصوليَّةٍ ثابتةٍ راسخةٍ في مجال حقِّ المؤلِّف بحيثُ يستحيلُ معه الاستئثارُ بالفكرة أو بالطابع ذاته دون غيره، ذلك لأنَّ الطابعَ الهرميَّ في حدِّ ذاته – وليس البناءُ ككلٍّ – كالأفكار التي تظلُّ حرةً طليقةً لا يمكنُ استئثارُها ولا حمايتُها حينئذٍ عن طريق القانون. ولو كان بإمكان أيِّ شخصٍ احتكارُ الطابع الهرميِّ لشكلٍ معينٍ لأصبح بإمكاننا – على سبيل المثال – احتكارُ الشكل الكرويِّ في حدِّ ذاته على أيِّ بناءٍ ما… إذ أنَّ ذلك سيكونُ بالتأكيد على حساب تطور الإبداع. إنَّ الحمايةَ بقانون حقِّ المؤلِّف في هذه الحالة الأخيرة لا يمكنُ أن تنصَّبَ إلا على الـمُصنَّف الذي برزت فيه الأصالةُ وتجسَّدت في ذلك “المزيج المتناغم للعناصر التي تكوِّنُ البناءَ المعماريَّ وخاصةً في الدرجات أو الألوان أو حتى في اختيار شكله الكرويِّ”.
وبالتالي فمن حقِّ أيِّ فنَّانٍ أو معماريٍّ أن يستلهمَ من الطابع الهرميِّ في إبداعه ما شاء للرسوم أو التصميمات أو المخططات أو النماذج الأوليَّة بحيثُ متى بَرُزَ على عمله الذهنيِّ طابعٌ مبتكرٌ يحملُ بصمتَه الشخصيَّةَ حينئذٍ يتمتَّعُ بالحماية القانونيَّة. والقولُ الفصلُ في ذه القضيَّة هو أنَّ أحقيَّةَ مصر على آثارها في ضوء حقوق الملكيَّة الفكريَّة ينطبقُ فقط على كلِّ عمليَّة نَسْخٍ للقطع الأثريَّة الأصليَّة أو غيرها وتصنيعها قطعًا طبقَ الأصل.
وخلاصةُ القول فإننا نرى أنَّ القانونَ – في كثيرٍ من الأحايين – لا يُغْمِضُ عينيه دائمًا، فنجدُه تقديرًا للمشاعر والأحاسيس يُغْمِضُ عينًا ويفتحُ أخرى بغرض إيجاد معيارٍ توازني يحققُ العدالةَ بين ما هو ممكنٌ وما هو حُلْمٌ.