الألفاظ ونسبية المعانى !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 23/10/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
من الألفاظ التى كثيرًا ما نستخدمها وكثيرًا أيضًا ما نخلط فى معانيها أو أغراض استخدامها ـ لفظ أو كلمة « المشيئة » .. وكلمة المشيئة أيًّا كان موضوعها فلسفةً أو دينًا أو علمًا أو فنًّا ـ لا تشير بصفة أصلية أساسية إلاّ إلى « المشيئة » التى قد تتغير اتجاهاتها وموضوعها بالروية والتفكير .
أما ما لا تأثير فيه بتاتًا للتفكير والروية ـ فهو خارج عن « المشيئة » .. وهذه المشيئة هى المقصود الأول المباشر لما نسميه المخاطبة والجدل والإقناع والأمر والنهى والقرار والحكم .. وأيضًا جميع ما يندرج تحت ذلك وما يستعمل لذلك أو فى ذلك ـ من براهين منطقية أو خطابية ووسائل للتبليغ أو للتوصيل أو الفحص أو الدفاع أو الهجوم .. فجميع ذلك موجه أساسًا إلى تلك المشيئة البشرية الواعية التى قد تتغير اتجاهاتها وموضوعاتها بالروية والتفكير .
ولذلك يصح فى خطاب هذه المشيئة ، الاحتجاج بمشيئة الخالق عز وجل أو علمه أو قدرته .. يتكرر ذلك كثيرًا فى خطاب الدعاة والوعاظ ، ولكن يطيب استخدام واحتجاج آحاد الناس بها بنحو أو بآخر .. يحدث ذلك بقصد التأثير فى المشيئة البشرية أو المصادرة عليها أو رفضها أو تحويلها أو محاجاتها أو تغييرها أو تقليل قيمتها أو تسفيه جدواها .. فالقول فى مشيئة الخالق عز وجل أو قدرته بقول الآدمى لأى آدمى .. مؤمنًا كان أو غير مؤمن .. فقط كحجة للتأثير فى مشيئة آدمية وفى قرار لمشيئة آدمية عن طريق الفكر والتأثير عليه أو فيه !
* * *
وكما تصيب الأنيميا الدم ومحتوياته ، فإنها تصيب التعبير نتيجةً لأنيميا الروح والعاطفة .. ومثل هذه الأنيميا أنيميا خبيثة تجعل معانى الأشياء كلها غامضة شاحبة هزيلة .. وهذه الأنيميا فى التعبير تصيب أيضا معانى الثروة والسلطة والدين والأخلاق والقانون .. حتى معانى الخير والشر واللذة والألم والجمال والقبح والإنسانية والهمجية والسعادة والتعاسة والراحة والشقاء والنافع والضار !
فى هذه الأنيميا قد ينسى الآدمى تمامًا ـ أن حياته « معانٍ » تتوقف على « معانٍ » برغم أصلها الحيوانى .. وقد ينسى تمامًا أيضًا أنه لم يعد يستطيع أن يحيا بدون معانيه وأن يعود إلى حيوانيته الأولى مكتفيًا بها بل ومستغنيًا بها أحيانًا عن إنسانيته استغناءً تامًّا .. ويغفل لذلك عن أنه فقد نهائيا القدرة على العودة حيًّا !!
إن الإنسانية هى أولاً وأخيرًا تعبير آدمى عمّا هو مشترك فى الروح والعاطفة .. إذا اختل وضعف ـ ضعفت الروح والعاطفة ، وإذا اختنق مات الإنسان كإنسان !!
* * *
الأديان تنشأ وتنتشر بتحريك عواطف الناس وتحريك عقولهم إلى مثل معينة ، فإذا استغنت الأديان ـ بقوة الدفع والاستمرار ـ عن تحريك العواطف والعقول نحو هذه المثل العليا ، صارت سياسة وليست دينًا .. لا تعتنى بالدين ومثله ومعانيه ، وإنما تعتنى بما تريده وتتغياه .. وهى وإن كانت سياسة وقبلتها وغرضها سياسى ، إلاّ أن سداد فواتيرها يأتى فى هذه الحالة على حساب الدين نفسه !
* * *
والمخيلة الفعالة التى تجسد نفسها فى الفعل وفى آثار الفعل التى أشواقها أفعال وطاقاتها أفعال وإمكاناتها أفعال ـ هى أشرف ما فى الآدمى وأخطر ما فيه على حياته ووجوده وحياة ووجود ما ومن يتصل به .. هى الخير والشر والبناء والهدم والإبداع والضمور .. هى الخلق والبقاء والاستمرار والقيم والحضارات والمعرفة والفن والعلم والأخلاق والدين .. هى وراء كل حركة واعية وكل سلوك وعادة وعرف وقانون .. ووراء كل قصد ونية وكل إرادة وكل تحقق وإنجاز .