الأصول المنطقية في اللغة القانونية (الإجرائية والموضوعية)

بقلم: الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]

ليس يخفى على النُّبهاء علاقة المنطق بالقانون في جملته، فالقانون علم اجتماعي تنظيمي غايته تنظيم سلوك الفرد في المجتمع وحماية الحقوق والمصالح عن الانتهاك، وكونه علما تنظيميا يقضي بأن يكون منطقيا عاما ومجردا مثل قواعده ليخاطب به الكافة على سواء، والخروج على المنطق يعني خروجا على العدالة انتكاسة كبيرة لها وللتنظيم المجتمعي العام في جملته… !

ويزيد من أهمية المنطق تلك النصوص الدستورية التي تنص على تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات بلا تمييز بينهم بسبب عرق أو دين أو مكانة أو حظوة … فحال تجاوز المنطق حينئذ لن يكون هناك تنظيم قانوني بقدر ما سيغدو حكما مستبدا قوامه الظلم وعماده الحديد والنار.

والمنطق كذلك هو أداة القانون الإجرائية فاللغة الإجرائية حتما هي لغة منطقية تعبر عن العدالة وعن اطِّراد قواعدها، فالقانون بعامة محكوم بالمنطق في إجراءاته بين الخصوم كما يعبر عن ذلك قانون المرافعات المدنية والتجارية وكذلك قانون الإجراءات الجنائية وحتما كل فرع قانوني يتعلق بالإجراءات مطلقا ولذلك كانت الإجراءات في جملتها تقوم على مراعاة حقوق الأطراف فهي تعطي لهذا بقدر ما تمنح ذلك في توازم تام بين المدعي والمدعى عليه وبين الجاني والمجني عليه.

وهكذا الأمر في جميع الإجراءات المدنية والجنائية والإدارية وإلا كانت محض شكليات لا علاقة لها بالعدالة من قريب أو بعيد، فجمع الاستدلالات وما يتبعها من تحقيق للنيابة ، ثم إجراءات المحكمة وما يحوطها من إجراءات كلها تعبر عن المنطق العدلي والتساوق العقلي والموافقة لطبائع الفِطَر السوية وما جبل الله عليه الناس وما تعارفوا عليه … وتعكس اللغة القانونية كل هذا من خلال براعة بنيانها وظاهر دلالاتها.

والمنطق أيضا هو جوهر الأحكام القانونية وميزانها فهو يعبر عن العدل بل يمكن عده العدل نفسه ، وهو ومعيار القسط ونظامه كذلك كما قال تعالى :”لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)”[ الحديد] ، وقيام الأحكام يكون من خلال الاستدلال والبرهان المنطقي المطرد بما يضمن التجريد والعمومية مع عمليات التفريد القضائي في وحدة متوازنة.

أما عن علاقة اللغة القانونية بالمنطق فهو على ما سبق في المقال السالف أصل من أصولها ومصدر من مصادرها ، فهو حاضر في أعمالها البنائية ، لكي يضبط عملياتها الاستدلالية، بل إن عمليات الاستدلال القانوني في مراحل الفهم ومراحل التفسير ثم مراحل استنباط الأحكام واستخلاص المقاصد تقوم على المنطق فيما يمكن تسميته “منطقية الفهم” بالنظر إلى الوقائع وإلى مكتوباتها وإلى المرافعات بشأنها .

ثم مرحلة التفسير وهي مرحلة وسط بين الفهم وبين استخلاص الأحكام من نصوصها تقوم على المنطق في إدراك المباني وعلاقاتها مع معانيها، وفي ملاحظة سياق الكلام وسِباقِه ، وكذلك عملية استنباط الحكم من النص وهي من أخطر عمليات التفسير والتدليل التي بناء عليها تتحقق البراءات وضدها من الجزاءات …!!

ومن المهمات التي ينبغي ذكرها عن المنطق في سياق اللغة القانونية ما يلي :

1- معنى المنطقي : Logical ، المنطقي والمنطقية المنسوب إلى المنطق مع مراعاة التذكير والتأنيث ، ويطق على كل ما يطابق قوانين العقل أو يتعلق بقوانين المنطق ، فيقال القضايا الاستنتاجات المنطقية ، ويرادف أكثر المنطقي العقلي، ويفرق المحدثون بينهما أن المنطقي يطلق على النطق، أي: على اللفظ بالقول والفهم بالفعل، بينما العقلي لا ينسب إلا على المنسوب إلى العقل والمنطقي يطلق على المشتغل بالمنطق، ويطلق كذلك على من يتقيد بأحكام المنطق في تفكيره واستدلالاه

2-المنطقية Logicism هي الميل لمعالجة الأشياء بأسلوب منطقي ، وهي النزعة التي ترمي إلى إعطاء مكان الصدارة للمنطق في البحث الفلسفي خاصة وفي غيره من الأبحاث بحسب سياقها

3-أقسام المنطق : ينقسم المنطق إلى قسميين المنطق الصوري Logique Formelle والمنطق العام :

أ-المنطق الصوري : هو النظر في التصورات والقضايا والقياسات من حيث صورتها لا من حيث مادتها ( منطق أرسطو = المنطق القياسي )

ب-المنطق الرمزي Symbolique) Logique )، وهو يعبر عن قوانين المنطق بالرموز والإشارات لا بالألفاظ والعبارات وقد يسمى بالمنطق الرياضي Lodipue

4-المنطق العام : هو البحث عن طرق الانتقال الفكري لمعرفة أي طريق منها يوصل إلى الحقيقة، وأيهما يوصل إلى الخطأ، وهو لا يقتصر على الصور التي تتألف منها البراهين بل يدرس المواد التي يتم بها التأليف، وأوضح طرقه هي المنطق المادي Materiele طرق الملاحظة والفرضية والتجربة والاستقراء وغيرها من طرق البحث العلمي . [ انظر فيما سبق د. جميل صليبا : معجم المصطلحات الفلسفية 2/ 429 ]

وكذلك يوصف كل من يتعامل مع اللغة القانونية بالمنطق وينسب إلى المنطقية في طريقة تفكيره، فيقال :

1-يلتزم صائع اللغة القانونية وناظمها بالمنطقية.

2- ويقال صائغ اللغة القانونية وناظمها منطقي في صياغته.

3- ويقال بناء قانوني منطقي ، وطريقة بنائية منطقية .

4- ويقال تشرع منطقي في أبنيته ودلالته، أي قواعده منطقية.

والمنطقية، فالمنطقية Logicism هي الميل لمعالجة الأشياء بأسلوب منطقي، وهي النزعة التي ترمي إلى إعطاء مكان الصدارة للمنطق في البحث الفلسفي .

وينبني على ما سبق أيضا :

أولا: اعتبارات منطقية في للغة القانونية.

وهي جملة اعتبارات منها:

1-اعتبار المنطق عنصرا رئيسا في النظرية العامة للغة القانونية في كل مساراتها وتصوراتها .

2-اعتبار قواعد المنطق ومراعاتها حتما في وظائف اللغة القانونية البنائية والدلالية.

3-اعتباره وصفا للقاعدة القانونية البنائية ، فتوصف بالمنطقية ، بأنها استوفت معايير المنطق ، ويوصف بانيها ومكونها بالمنطقية.

4-اعتماده وصفا للقاعدة القانونية دلاليا، فيقال فهم منطقي، ودلالة منطقية، ومعنى منطقي، واستخلاص منطقي .

5-اعتماده وصفا للصائغ والناظم الذي يقوم على صياغة القاعدة القانونية ونظمها.

6-اعتباره وصفا للغة القانونية الرسمية على وجه الخصوص، فيقال لغة قانونية واضحة ومنطقية، لغة رصينة منطقية ، لغة البناء منطقية الدلالة.

ثانيا: اعتبار المنطق مكونا رئيس في القواعد الأصولية اللغوية البنائية.

إذ إن البناء المنطقي للقاعدة القانونية يعني فهما واستخلاصا للأحكام مبنيا على المنطق، فهو حاضر في القواعد اللغوية البنائية، كما أنه ضابط في القواعد القانونية الدلاليةـ وقد رحب الأصوليون بالمنطق وقواعده، وجعلوه جزءا أصيلا من علم الاصول، وهو حاضر ايضا في القواعد الأصولية اللغوية إذ الأمر على ما يذهب الغزالي في كتابه «المستصفى» حيث يقول:

“وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ مَا ازْدَوَجَ فِيهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فِيهِ الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ، وَعِلْمُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ صَفْوِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَا هُوَ تَصَرُّفٌ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ» [أبو حامد الغزالي : المستصفى ص21 تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1413هـ – 1993م ]

بل قد أسرف فيه بعضهم على حد قول الغزالي إثر نقله السابق، «وَإِنَّمَا أَكْثَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ لِغَلَبَةِ الْكَلَامِ عَلَى طَبَائِعِهِمْ فَحَمَلَهُمْ حُبُّ صِنَاعَتِهِمْ عَلَى خَلْطِهِ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ، كَمَا حَمَلَ حُبُّ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَزْجِ جُمْلَةٍ مِنْ النَّحْوِ بِالْأُصُولِ فَذَكَرُوا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَمَعَانِي الْإِعْرَابِ جُمَلًا هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ خَاصَّةً»، [ السابق نفسه] وقد نأتي على تفصيل هذه النقاط في علاقة علم الأصول وخاصة في مبحثه الأعظم: ” القواعد الأصولية اللغوية ” ومدى علاقته باللغة القانونية، واسترفادها منه، ويناءها عليه في كثير من المواطن .

أما عن مسألة الاختلاف في المنطق عموما فهو اختلاف قديم خديث قد يمتد إلى اللغة الأصولية دون اللغة القانونية ، وقد لخص الأخضري هذا الخلاف في متنه “السلم المنورق” فقال :

والخلف في جواز الاشتغال به على ثلاثة أحوال

فابن الصلاح والنواوي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحة جوازه لكامل القريحة

ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصـــــــــــــواب

وقال ابن حزم في الرد على من هاجم المنطق وحرمه بلا علم ولا دليل ” ثم قالوا: فخلوا كتاب “حد المنطق” لأجل ذلك، ولما فيه التعمق والعرض، وترتيب الهيئات”.

فالجواب – وبالله تعالى التوفيق – إن هذا من ذلك الباطل . ليت شعري أدخل حد المنطق في السنن إن هذا لعجب عجيب؛ ومن كانت هذه منزلته من الفهم ما كان حقه أن يعود إلا إلى كتاب الهجاء. ومن طرائف الدهر قولهم: إن في حد المنطق ترتيب الهيئات، وهذا أمر ما علمه قط أحد في حد المنطق، ونسأل هؤلاء السعوات عن حد المنطق هذا الذي يذمونه: هل عرفوه أم لم يعرفوه فإن كانوا عرفوه فليبينوا لنا ما وجدوا فيه من المنكرات؟!!

وإن كانوا لم يعرفوه، فكيف يستحلون أن يذموا ما لم يعرفوه ألم يسمعوا قول الله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس: 39) ولكن إعراضهم عن القرآن إلى ما يطول عليه ندمهم يوم القيامة، هو الذي أوقعهم في الفضائح والقبائح، ونعوذ بالله من الخذلان. [رسائل ابن حزم (3/ 86- 87)]

والحاصل : أنه لا تخفى علاقة المنطق بالقانون ولا باللغتين التراثية والقانونية حتى لتكاد تقوم بهم معا ثلاثية متكاملة منسجمة وهي ثلاثية (اللغة والقانون والمنطق)، وهو ما افترضناه سابقا من أن اللغة القانونية قوامها وأصولها هي (اللغة والقانون والمنطق والأصول) وتتصل اللغة بالمنطق لفظا ومعنى، فهو مشتق من النطق وحديثا ساوى بعض العلماء بين المنطق واللعة وهو اتجاه علمي محترم وله مؤيدوه.

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى