الأدب مهجة المحاماة

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 25 / 5 / 2020

بقلم : أ. رجائى عطية

الأدب والمحاماة قرينان لا يفترقان ، المحاماة أدب ، والأدب محاماة ، وحفل تاريخ المحاماة بعمالقة فى الأدب ، الأستاذ أحمد لطفى السيد أستاذ الجيل ، وسعد زغلول ، ومصطفى كامل ، ومحمد فريد ، وعبد العزيز فهمى ، ومكرم عبيد ، والدكتور محمد حسين هيكل ، وقاسم أمين ، وتوفيق الحكيم ، ومصطفى مرعى ، ويحيى حقي، وفكري أباظة ، ومحمد التابعي ، ومحمد عبد الله محمد ، ومحمد مندور ، وإحسان عبد القدوس ، وأحمد حسين ، وعبد الرحمن الرافعي ، وفتحى رضوان ، وموسى صبري ، وعزيز خانكي ، وجميل خانكي ، ومحمد علي علوبة ، وأمين الجميل ، وغيرهم كثير من حبات العقد الفريد الذي اجتمع فيه الأدب والمحاماة.

لم يكن صدفة أن تعانقت الكلمة والمحاماة، فبينهما علاقة حميمة وتأثير متبادل يصل حد الاندماج ، كلاهما يأخذ من الآخر ويصب فيه ، لذلك ظلت المحاماة على صلة دائمة لم تنقطع أبدا بالأدب والفكر والثقافة ، وارتفع إلى قمة الأدب قمم فى المحاماة ، وسطر عمالقة فى المحاماة صفحات رائعة فى الآداب والفكر والثقافة ، حتى بات عسيرا أن ترد أحدهم إلى هذه دون تلك .. عرف الأدب والفكر الدكتور محمد حسين هيكل فى زينب أول رواية مصرية وفى حياة محمد والفاروق عمر ومنزل الوحى وجان جاك روسو وغيرها ، مثلما عرفته ساحات المحاكم محامياً لامعـًا ووزيرًا بارعـًا ورئيسًا شامخًا لمجلس الشيوخ المصرى .. وعرفت الحياة الأدبية توفيق الحكيم الذى كان أول إلهاماته فى عالم الأدب مستوحى من تجربته فى ساحـة القضاء برائعته : يوميات نائب فى الأرياف ، وكتابه : عدالة وفن ، وحمل الأدب فى حقيبته ليبدع لنا وللإنسانية أهل الكهف ، وعودة الروح ، وعودة الوعى ، وسجن العمر وزهرته ، وشجرة الحكم ، وسلطان الظلام ، وإبداعاته فى المسرح والمسرواية إلى آخر المؤلفات الأدبية والفكرية الرائعة الذى مثل بها الحكيم أحد أضلاع التنوير فى القرن العشرين .. وعرفت الحياة الأدبية يحيى حقى خريج الدفعة ذاتها التى تخرج فيها وتوفيق الحكيم ومعهما أبى عطية عبده المحامى سنة 1925 بمدرسة الحقوق الملكية آنذاك ، وعاينت دوره الذى امتزجت فيه رؤيته بالمحاماة وتجربته كمعاون إدارة ، مع تراب مصر ، وعبق تاريخها ، ورحلاته بالخارجية ، وسياحاته فى الفكر والأدب الإنسانى ، ليقدم مزيجا رائعا لأديب مفكر فذ التقت فيه هذه الروافـد فى عطاء متبادل : عشق الكلمة ، خليها على الله ، صح النوم ، قنديل أم هاشم ، دماء وطين ، أم العواجز ، وباقة من أميز ما قدم إلى المكتبة العربية فى القرن العشرين .. قليلون من يعرفون أن شيخ النقاد الدكتور محمد مندور أستاذ النقد والنقاد ، وصاحب كتاب النقد المنهجى عند العرب ، وتصانيف نقد الشعر والمسرح والأدب ومذاهبه ، فى الميزان الجديد ، والنقاد المعاصرون ، المسرح والمسرح الفكرى ، وفن الشعر ، هذا الأديب الناقد خريج حقوق القاهرة دفعة 1930 التى كان أولها المحامى الأشهر والمفكر والأديب والشاعر الفذ الدكتور محمد عبد الله محمد .. الذى بلغ القمة التى ارتقاها فى صمت جليل وتواضع لافت ، وقليلون من اطلعوا على عالم هذا الرجل الذى قدم سوامق الفكر وروائع الأدب والأشعار .. فكما ظلمت رواية : قنديل أم هاشم ، يحيى حقى ، فتغولت على باقى أعماله ، فإن كتاب محمد عبد الله محمد : « فى جرائم النشـر » ، شـد انتباه الجميع فلم يعد أحد يدرك أن لهذا المحامى العالم الأديب ـ إلى جوار جرائم النشر وبسائط علم العقاب ـ كتاب فذ فى

« معالم التقريب » ، وأشعار بالغة الإتقان والجزالـة والعمـق قمـت بجمعها له بعد لأىٍ فى ديوانيه « العارف » و« الطريق » .. وحين اختارته الدولة فى وقت عصيب لتولى نقابة المحامين بدا أدبه وحكمته فى إدارة شئون النقابة وإعلاء القيم والمبادئ فى الفترة الوجيزة التى تولاها ، وقليلون ـ بعد مضى الزمن ! ـ من بقوا يتذكرون كيف اجتمع الأدب والمحاماة فى الأفذاذ إبراهيم الهلباوى وعبد العزيز فهمى وأحمد لطفى السيد أستاذ الجيل وصاحب كتاب أرسطو ورئيس تحرير الجريدة وأول رئيس لمجمع اللغة العربية ، وقاسم أمين صاحب كتابى : تحرير المرأة والمرأة الجديدة ، ومصطفى مرعى وفكرى أباظة ومحمد التابعى أمير الصحافة المصرية والمحامى المؤرخ عبد الرحمن الرافعى وغيرهم من حبات هذا العقد الذين ازدانت بهم صفحات الفكر والأدب مثلما ازدانت صفحات المحاماة !

حين كتبت رسالة المحاماة من إثنى عشر عامًا ، حرصت على وصف « الرسالة » .. وهو وصف تستحقه المحاماة ، بأدبها وبرسالتها التى تؤديها فى ساحة العدالة ، بالحجة والأدب والبيئة .

لا يعرف المحاماة ، ولا ينال شرفها وسمو غايتها ومعنى رسالتها ، من يجافى الأدب والمعرفة .. والأدب قبل المعرفة ، لأن الأدب هو مفتاح كل أبواب المعارف والصفات والملكات .. تدين المحاماة للغة وآدابها كما تدين للفكر والقانون ، ويتوازى فيها أدب الخطاب والتعبير مع حرية الفكر وقوة الحجة والمنطق ، ثم هى لا تنفصل أبدًا عن التقاليد والآداب .. يخطئ من يظنون أن « رداء » المحاماة عبء يجوز أو يحق للمحامى أن يتخلص أو يتخفف منه ، فهو عند العارفين إعلان واجب عن المحامى والمحاماة ، وتصنيف للمحامى فى مكانه ومكانته اللائقة فى ساحة العدالة !

لم نكن نرى أحداً يخرج فى الزمن الجميل عن قيم وتقاليد وأدب ووقار ونبل المحاماة .

أرباب الكلمة إبداعاً أو تأليفا أو كتابة أو خطابة أو محاماة أو صحافةً ، هم الحماة الحقيقيون لقيمة وأدب وأمانة ونزاهة وجديه ووقار ورسالة الكلمة .. حِمْل المحامى والمحامـاة فـى هذا كله أثقل ،لأن المحامى لا يختار أداءه ولا يطلق كلماته فـى الفضـاء الفسيح يلتقطهـا من يشاء ويعزف عنها أو يجافيها من يشـاء ، وإنمـا هـو يتلامس بها ـ بكلمته ـ مع الحق والعدل والخير والجمال .. هو فى محراب العدالة يسعى ، وإلى الحق فى سموه يرنو .. متوسدًا هذه الباقة من العلم والأدب والمعرفة التى يقضى حياته جامعاً لزهراتها ، وتزيدها تجربته انصهارًا وبصيرةً ورونقا تزهو بهم المحاماة وتؤدى نصيبها المقدور فى طلب الحق والعدل والكمال والإنصاف حيث كان .

زر الذهاب إلى الأعلى