الأخلاق في صحبة الفهم !
من تراب الطريق (1077)
الأخلاق في صحبة الفهم !
نشر بجريدة المال الأربعاء 7/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الأخلاق مصحوبة بالطاعة والتسليم ـ أيسر وأسهل من الأخلاق مع الفهم، ولكنها أقل خصوبة وحيوية وتفاعلا مع الروح والعقل، لأن الطاعة والتسليم بالأخلاق كمصدقات، لا بد منها تصديقاً واتباعا ينطويان على موقف إيماني يتعرض مع الزمن للتجمد والتكلس.. وهذان يخمدان الروح والعاطفة والعقل !
وقد ضمنت الأديان السماوية ـ للأخلاق طاعةً وتسليمًا من قرون وأحقاب بالنسبة للجماهير، لأنها جعلت الالتزام بقواعدها التزامًا للرب وجزءًا لا يتجزأ من الإيمان بدينه، ولأنها ضيقت بذلك من فرص الفهم والتأمل، وخلقت مع الأخلاق ثبات الدين وعدم قابليته للتغيير في شكله وفي موضوعه.
والتمسك بالقواعد المقررة للأخلاق ـ تسليمًا وإيمانًا كقواعد التدين ـ لا يخرج عن كونه اعتيادًا فيه آلية محوطة بشيء من القداسة والزهو.. يظن صاحبه أنه يخوله الإرشاد والهداية وإن كان في الواقع موجـهًا منقادًا، وأنه يعطيه مكانة يجب أن يسلم الناس له بها.. كبيرهم ووضيعهم.. لأن ذلك يعطيه حقًا في أن يصوّب ويخطئ سلوك البشر.. وهذا الاعتياد لا يتأثر بتغيرات المحيط واختلافات الأحوال والظروف، وهو يزداد مع التقدم في السن تسلطاً وعنفًا وقلة صبرٍ وتعجلاً في الإدانة وترديدًا وتخويفًا بالعواقب.. والناس تتحاشى صاحبه قدر إمكانهم لأنه يزيد حياتهم عُسْرًا.. لأن التزام الأخلاق والتدين إنما يخدم الناس وحياة الناس، والناس لا تقبل على الأخلاق والتدين إلاّ من أجل ذلك.. فإن عَسَّرا وضيَّقا علـى النـاس حياتهم، تحولوا عنهما !
وثبات قواعد الأخلاق في صيغها القديمة سبَّب إخلال الأجيال المتعاقبة بها فعلاً وواقعًا مع محاولة تبجيلها كلامًا وادعاء.. وهو ما يكشفه الصغار بسرعة في كل عصر ويندفعون باكتشافه إلى العربدة وانعدام الثقة في الكبار !
فالأخلاق المصحوبة بالطاعة والتسليم قولاً وفعلاً تكاد لا توجد الآن في أي مجتمع متحضر، وإن كانت صيغها موجودة يرددها الناس في المناسبات تعليلاً أو تسهيلاً أو محاجةً.. ولم توجد بعد حركة عامة جادة في أي بلد لعلاج هذا الواقع.. ولا لمحاولة تطوير الأخلاق تطويرًا معقولاً يساير تطور المعارف والأحوال والظروف، ويعيد إلى الأخلاق امتزاجها بواقع الحياة وتفاعلها مع أرواح وأفكار وعواطف الأحياء.
وهذا يسوقنا إلى الوقوف بالأخلاق مع الفهم.. أي الأخلاق المرتبطة دائمًا بالعمل والحياة وواقعها المتغير المتطور.. وليس بصيغ عامة خالية من التحديد كلما ضاقت اتسع شمولها ومعناها.. فلا يمكن انضباطها، ويتمسك الناس بصيغها ويتهربون من حسن تطبيقها برغم ملاءمته للعقل والواقع !
والذين يفهمون الأخلاق واسعو الصدر دائمًا قادرون على إدراك الأعذار وعلى احترام حق الآدمي في أن يعالج أموره ومشاكله مادام جادًا حسن النية سريع العودة إلى الصواب عندما ينكشف له خطؤه. لأن الأخلاق مع الفهم مطلوب عقلاً من كل آدمي ليحيا حياة معقولة طيبة مليئة بالثقة في النفس والغير وباحترام النفس واحترام الغير. ولكن لا يتيسّر معايشة الأخلاق مع الفهم ـ إلاّ لقليلين من الناس منهم الموهوبون بموهبة الإحساس بأهمية وقيمة الآخرين.. وهذا الإحساس يوقف عندهم الميل إلى الحكم والتحكم أو يمنع ظهوره.. ومن هؤلاء أغلبية أهل الولاية والقديسين.. ومنهم أهل التأمل والفكر وسعة العقل والصدر.. الذين يتشككون في صحة العداوات وفي إمكان اليأس من حال أي مخلوق، ويرون أن الأخلاق أرواح لا تحسبها الصيغ والأوصاف والأشكال والصـور. قـد توجد في أية صورة أو شكل، وقد لا توجد مع اجتماع الصيغ والأوصاف والأشكال المتواضع عليها !
وربما كانت الأخلاق مع الفهم بوادر وشواهد في طريق الأخلاق للتخلص من الاحتياج للامتثال والطاعة والتسليم.. والموقف الإيماني تطور يحتاج إلى وقت طويل تتحول معه جماهير البشر من شدة الاعتماد على التقليد والمحاكاة والتصديق في بذل عواطفها وتحريك ميولها، إلى نجاح في مصاحبة عقولها لعواطفها وعواطفها لعقولها مصاحبة لا تنقطع.. تخدمها الأشياء المادية وتتنافس في خدمتها ـ خدمة المادة للروح والمبنى للمعنى.