الأخلاق في الإسلام

الأخلاق في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 31/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

قيل في تعليل نشأة الأخلاق، إنها مصلحة اجتماعية تتمثل في عادات الأفراد لتيسير العلاقات بينهم..

فمن الخطر الداهم على الجميع، أن ينطلق كل فرد في إرضاء نزعاته أو تحقيق منافعه مهما كان في ذلك من إضرار بالآخرين، ومن هنا وجب على كل فرد أن ينزل عن بعض نفعه ويعدل عن بعض هواه، لكي يضمن بهذا النزول الاختياري أكبر قسط مستطاع له وللآخرين من الحرية والأمان.

* * *

وقيل أيضًا في تعليل نشأة الأخلاق، إنها ترجع في كل جماعة بشرية إلى أكثر من مصدر، فهي ترجع إلى مصلحتين، وقد تكون إحداهما على نقيض الأخرى فيما تمليه.

وقيل إنها ترجع في ناحية منها إلى مصلحة السادة، وترجع في ناحية أخرى إلى مصلحة العبيد، وقد يترجمون ذلك إلى أخلاق الأقوياء وأخلاق الضعفاء.

وأحدث القائلين بهذه التفرقة بين الأوروبيين ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ هو « فردريك نيتشه » المعروف بمذهبهَ الشهير عن « إرادة القوة »، وبها يعارض الاكتفاء بمجرد إرادة الحياة، وهي قوام الأخلاق عند الضعفاء.

ولكن ما هي الأخلاق القوية ؟ وهل كل ما يفعله الأقوياء خلق حميد ؟

وإذا قيل إن أخلاق القوة هي أخلاق القوى أمام الضعفاء، فما هي أخلاق القوى إزاء القوى مثله ؟!

قديمًا فسّر الفيلسوف الإنجليزي « هوبس » ـ كل خلق حميد بأنه قوة، أو دليل على

قوة.

فالصبر قوة، لأن الضعيف يجزع، ولا يقوى على الصبر والاحتمال..

والكرم قوة، لأن الكريم يثق في قدرته على البذل، ويعطى الضعيف المحتاج لعطائه..

والشجاعة قوة، لأنها ترفض الجبن والاستخذاء..

والعدل قوة، لأنه غلبة العادل على نوازع طمعه وهواه..

والعفة قوة، لأنها تقاوم الشهوة والإغراء..

والحلم قوة، لأنه مزيج من الصبر والثقة بالنفس..

والرحمة قوة، لأنها نجدة لمن يستحق الرحمة من المغبونين والضعفاء..

والقياس على ذلك موكول في كل خلق.

وفحواه أن القوى تحمد منه أعمال، ولا تحمد منه أعمال، وأيًّا كان الظن في صواب هذا النظر، فإنه ليس في وسع أحد أن يقر أن يفعل القوى ما يشاء، وينجرف مع قوته إلى ما يشاء، ناهيك عن وصف كل ما يأتيه ويندفع إليه بأنه حميد جميل !

فما هو إذن الضابط للأخلاق القوية ؟ أهو الاستطاعة ؟ وهل يستقيم أن كل ما يستطيعه القوى حميد وكل ما لا يستطيعه ذميم ؟

ولماذا يشاء القوى أمرًا ولا يشاء آخر.. وما الذي يليق أو لا يليق بما يشاءه.

إن كل ذلك لا تفسره القوة وحدها..

فإذا عدنا إلى مذهب المنفعة في الأخلاق، كان السؤال: هل نرتضى أخلاق الجزع، أو أخلاق الغدر، أو أخلاق المشاكسة، ولو لم يكن لها علاقة بمصالح الاجتماع ؟

هل من مقياس آخر غير مقياس المصلحة الاجتماعية ؟ أو مقياس التفرقة بين الأقوياء والضعفاء ؟

بلى، هناك مقياس لا بد من الرجوع إليه فيما يرى الأستاذ العقاد، هو صحة النفس، وصحة الجسد على السواء.

فالنفس الصحيحة، يصدر عنها أخلاق صحيحة.

والجسد الصحيح، يصدر عنه عمل صحيح.

ولا صحة بغير ضابط، وكل ضابط معناه القدرة على الانضباط أي القدرة على الامتناع.. وهذا يعنى قدرة الفرد عن رد النفس عن بعض ما يشاء، لا المضي مع النفس في كل ما تشاء..

وهذا قبل كل شيء هو مصدر الجمال في الأخلاق.. معناه أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية، وأن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع، وليس قصاراه أن يساق إلى ما يراد..

مصدر الجمال في الأخلاق، أن يشعر الإنسان بالتبعة، وأن يدين نفسه بها ضنًّا بالنفس عما يشينها..

مصدر الأخلاق الجميلة هو « عزم الأمور » كما سماه القرآن الحكيم، وهو مصدر كل خلق جميل حثت عليه شريعة القرآن المجيد.

الأخلاق

ومقياس التقدم

مقياس التقدم الذي لا يقع فيه اختلاف أو اختلال، هو مقياس المسئولية واحتمال التبعة، ولا تجد أفضلية بين فردين أو أمتين، إلاَّ لدى صاحب النصيب الأوفي من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بالتبعات، والاضطلاع بالحقوق والواجبات.

والقرآن الحكيم يقرر التبعة الفردية، وينوط بها كل تكليف من تكاليف الدين، وكل فضيلة من فضائل الأخلاق.. ففي القرآن «… وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ».

« كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ».

« لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ».

« قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ».

* * *

وما من خصلة حث عليها القرآن إلاَّ كان تقدير جمالها بمقدار نصيبها من الوازع النفسانى، أو بمقدار ما يطلبه الإنسان من نفسه دون أن يضطره أحد إلى طلبه..

أجمل الحقوق وأكرمها على الله، وأخلقها بالفضيلة الإنسانية ـ هو الحق الذي تعطيه من نفسك دون أن يضطرك أحد إليه..

تلحظ هذه القيمة في إكرام المسكين واليتيم والأسير.. فلا اضطرار في العطاء إلاَّ ما تستشعره النفس وتُقبل طائعة مختارة عليه.

« وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ».

* * *

ولا تحسب على الأمة لعنة تستحق النكال من أجلها، كلعنة التهاون في رعاية اليتامى والمساكين..

« كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ».

ومن واجب القوى القادر أن يجود بروحه في سبيل الله كما يجود بها في سبيل المستضعفين:

« وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ ».

وأحب البر بر الوالدين، سيما حين يهرمان ويعجزان..

« وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ».

* * *

وغنى عن التفصيل، أن الفضائل المثلى التي يحض عليها القرآن، هي الفضائل التي ترتفع إلى نشدان الكمال..

فالصبر والصدق، والعدل والإحسان، والمحاسنة، والأمل والحلم والعفو ـ هي مثال الكمال الذي ينشده من يزع نفسه على كل جميل كامل من الخصال..

« وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ».

« وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ».

«… وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ».

« إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ».

« وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ».

* * *

وهذا الأدب نفسه، هو الذي يملى على الكبير أن يتواضع للصغير، وعلى الصغير أن يحفظ مكانة الكبير، ويوجب على الجميع كبارًا وصغارًا أن يتجنبوا الإساءة، ويراعوا المحاسنة، ويتعاملون بالرفق والأدب وطيب العشرة وحسن الكلام..

« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ».

« إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ».

« وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ».

« قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ».

« إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ».

« إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ».

« وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ».

« وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ».

* * *

جماع هذه الأخلاق كلها، هو تلك الصفات التي اتصف بها الخالق نفسه في أسمائه الحسنى، وكلها مما يروض الإنسان نفسه عليه.

وإن المسلم ليؤمن بالمصدر المثالي لهذه الأخلاق، ويؤمن بها جميعًا ويرجوها، ولا يجد غير المسلم غناء عن الاقتداء بها في شوقه إلى الجمال والكمال.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى