الآدمي بين النضج والضمور ! (6)

من تراب الطريق (1010)

الآدمي بين النضج والضمور ! (6)

نشر بجريدة المال الخميس 31/12/2020

بقلم:الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

التشابه الذي نعتقد أنه ليس منه بُدٌّ ـ في إنشاء القرابات والصلات والجيرات والمصالح التي تستدعى في أكثر الأحيان أضدادًا لها من نفور وابتعاد وغربة وعداوة واقتتال !.. فنحن حتى اليوم نلوذ ـ إما بما نود ونحب ونرجو، أو نقاوم أضداده ونتوقف ونحجم عما نكرهه ونخشاه.. فنحن دائمًا إما في فيء الأمل أو في ظلال اليأس.. بعيدين في الحالين عن الفهم والحساب وصدق النظرة والفحص الجيد.. لأن غالبيتنا الغالبة ـ حتى اللحظة ـ أصحاب أهواء.. صغارنا وكبارنا.. ذكورنا وإناثنا.. لم نتركها ولن نتركها ما دمنا في النهاية ملتفتين إلى الوهم في حفاظنا على الذات وخلطنا بين زيادة الفهم القابل للزيادة بشريًا، وهو ما يمكن أن يسعى إليه الآدمي ليحصل عليه في حدود ظروفه وقدراته ـ وبين الفهم التام الكامل الذي لا يمكن أن يصل إليه مخلوق.. لأن الخالق ـ سبحانه جل وعلا ـ لا يتعرض لخلط أو خطأ.

فالآدميون يسعون للفهم لشدة حاجتهم إليه قدر مستطاع كل منهم في ظروفه وعصره.. ينجح بعضهم وتتعثر أغلبيتهم.. ولذلك ملأ الخطأ والخلط دائمًا حياة البشر.. متحضرة وغير متحضرة.. ولا ينتظر أن يأتي يوم يكون فيه الآدمي ـ أي آدمي ـ كاملاً لكمال علمه، وأقصى ما ينتظره إن أسعده الحظ في جماعة أن تفهم غالبيتها ضرورة التخلص من شطط الأنانية الذي يسوقنا منذ وجودنا ـ عاجلاً أو آجلاً ! ـ إلى البلاء وأحيانًا إلـى الفناء الجماعـي.. لأن البشر إذا أمكنهم أن يبقوا حياتهم لأجلهم المعتاد لعصرهم ـ لا يبالون كثيرًا بما يصيب جماعة أو جماعات بأسرها.. ذلك أن إحساس الآدمي غنى بالحياة التي تملؤه وتخفي في عينيه زوال الحاضرين أو زوال الماضين أو من في طريقهم إلى الزوال !

لكن كلما ازداد الوعى للحياة كما فهمها الآدمي، زاد طمعه فيها وقوى شعوره بذاته وتطلع لأطايبه واشتد حرصه على نصيبه منها له ولأهله.. فإن ازداد واتسع وتعمق فهمه ـ وهذا غير كثير ! ـ قـد يرى قيمة فطرته الفاهمة العميقة أهم وأصدق وأغنى بكثير جدًّا من اهتمـام غيـره على « أناه » التي لا يشاركه في الاهتمام بها سواه.. وعندئذٍ يمكنه أن يكسب ثقة آخرين يفهمون بعض ما فهمه ممن سقط في نظرهم جشع الأنانية وحماقة تعصبها للذات.. وعافوا طفولتها ومراهقتها الكئيبة الحمقاء في عين العقل والإنسانية العاقلة.. التي لا توجد أصلاً إلاّ مع سمو مرتبة العقل ومنزلته !

ففي أعماقنا بوادر خير غائر ربما ينتظر الفرص صابرًا لتحطيم القشرة التي يكسو خلطها حياته.. هذه الحياة التي ترقب بين حين وآخر مفارقتها نهائيًا غثاء الخلط والسطحية.

ووعينا الفطري ـ بما عشنا معه واعتدنا عليه من تمسكنا الشديد بحياة كل منا ـ برغم متاعبها التي لا تنقطع ولكنها تهون بالاعتياد ـ هو وعى بحياة قد تكتسب هدوءًا وشبه أنس في أنظار كل منا وترحيبًا بإحساس كل منا بالنمو والاقتدار على مواجهة ما كنا نخشاه.. ووعينا بهذه الحياة يشمل تسليمنا بالقرابات والصداقات والجيرات والزمالات، وانتماءنا للأهل والعشيرة والوطن، مثلما ينطوي على رفض أغلبنا للغربة والمطاردة والتشرد.. هذا الوعي العام الذي يبدو لكل منا فطريًا ـ إلاّ لدى الشواذ ـ كان وما زال فعالاً عاملاً في كل جماعة بشرية.. متحضرة أو في طريقها للتحضر أو ما زالت متأخرة.. حاضرًا فاعلاً عاملاً في أغلبنا بغير إمعان ودون تدقيق وتمييز وعناية.. موصول الحضور مع توالى الأجيال وتغايرها ثم تباعدها، ومع توالى ظهور وزوال السطحيات والوفيات الهائلة في الأعمار والأذواق والأفكار والآراء وتغير قوة العقيدة وصلابة الرأي !

فمعظم ما نظن أنه عميق ثابت لدى كل منا مساير للتطور والترقي ـ غير صحيح.. بل هو كغيره ـ عرضة للتعديل والتغيير والنكسة والردة.. سواء في أيامنا أو في أيام من سبقونا.. بلا فارق جاد قوى غير ميسور الاقتلاع إن دارت الدائرة عليه بمخاطرها وكوارثها التي لا يعرف لها حدود.. يحدث ذلك بسبب دوام تحرك الخلط لدى البشر بين الصدق والكذب والواقع والخيال والفهم والمجازفة والأمانة والحيلة والجماعة والذات والباقي والوقتي !

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى