الآدمي بين النضج والضمور ! (5)
من تراب الطريق (1009)
الآدمي بين النضج والضمور ! (5)
نشر بجريدة المال الأربعاء 30/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
وحباية الآدمي بالعقل، حباية ظاهرة.. يرافقه منذ خلق، ويتدرج معه، ويتسع في أبعاده وملكاته ومرونته لما لا يمكن أن تتسع له خلقة أي حيوان أو نبات.. مع أن هذا العقل لم يعط طعامًا خاصًا، ولا مأوى أو كساء مما يعطى لسائر الأحياء الأخرى التي يعرفها البشر.. وقد تبين للآدمي ـ منذ زمن بعيد ـ قدرة واتساع عقله الذي قاده قبل غريزته إلى ما حققه في محيطه من حضارات تقلبت عليها أحوال وأطوار تبعًا لتقلبات الصلات الوثيقة بين الأفراد وبين كل من الجماعات والحضارات !
ذلك أن العقل لم يمنح بداية ونهاية إلاّ للأفراد.. وتسري آثاره مع انتشاره إلى مجاميعهم بدرجاتها لتسهل عودتها إلى الأفراد.. وهكذا بغير انقطاع.. دون مراقبة دقيقة للانتقال من الأفراد إلى المجاميع ومن المجاميع إلى الأفراد.. وهذه الحركة الدائبة الانتقال والعودة من الأفراد كأفراد ومنهم كمجاميع إلى أفراد ـ هي المجال الواسع الضيق الذي تجرى فيه حياة البشر بفضل العقل البشرى ونموه المطرد.. هذا النمو الجاري برغم العقبات التي تقف في طريقه بسبب “ذات ” كل آدمي وحرص هذه ” الذات ” ـ الفردية ـ على حماية نفسها ووجودها وفاعليتها طوال عمر كل آدمي في جميع مراحله وجميع مراحلها هي الأخرى.. لأنها دائمًا من بداية المطاف إلى نهايته ـ في وعيه.. هي أس ومعنى وأول وآخر حياته الواعية في هذا الكون !
وما يسميه الآدمي الحي مدفوعًا بتلك الذات المتحكمة ـ جماعته وحضارته وفضيلته وتمدنه وشرفه ومعارفه وعلومه وآدابه وقدراته وإخلاصه وصدقه وأمانته ووفائه ـ هو هو الجانب الطيب الذي تتمناه ذات الآدمي لنفسها دائمًا.. نجحت فيه أو لم تنجح.. والذي تطمع أن تتوج بنجاحها ما يمحو ذنوبها وعيوبها التي ساقتها إلى اقتراف حماقاتها وشهواتها وأنانيتها المسرفة.. وهو ما لم يتحقق للأسف حتى الآن لدى أكثرنا برغم أمانينا التي قد تداعبنا من وقت لآخر ! . فنحن جنس يحمل دائمًا في ماضيه وحاضره أوزاره وخطاياه الجمة مع آماله وأمانيه الطيبة.. ولم يمكنه بعد أن يتخلص من امتزاج طيبه بسيئه . فاعتاد أن يبقى مجازفًا ـ عرضةً وهدفًا للأخطار والكوارث والويلات الخاصة والعامة.. ولذا قد اعتاد معظم البشر على الاستسلام اليائس لما اعتدنا أن نسميه بالأقدار!.. لا نريد أن نجتهد في فهم معناه وفحواه مكتفين بقضائه وقدره وإضاعة أعمارنا التي نبذلها بكل خفة وإغراق في الحسد والحقد والأنانية والطمع والغرور والكسل واللـذة والشهـوة والانتقـام والتخريـب والفتـك.. يتمسك كل منا بذاته التي لا نتخلص منها إلاّ بالموت.. لأن كل آدمي لم يتحقق حتى الآن ولم يحاول أن يتحقق ـ من معنى ذاته وقيمتها ومنافعها ومضارها على حياته وإدراكه لحياته من جهة السعة والضيق القابلين دائمًا للاتساع والضيق والفهم وعدم الفهم والعمق والسطحية !!
والذات الإنسانية قد تتشابه في بعض السلوك والاتجاهات والعادات والتصرفات أو في معظمها ـ على حين أن كُلاّ منا في أي زمان ومكان شديد الشعور بذاته وانفصالها الداخلي عن جميع الخلق والمخلوقات في كل ما يفضله وكل ما يرفضه وكل ما يجهله.. وهذا الانفصال الداخلي لعمقه وعدم فهمنا له ولحقيقته ووظيفته وأدواره ـ نحاول خلطه دائمًا بالتشابه الخارجي الملحوظ بين البشر.