الآدمي بين النضج والضمور ! (1)
من تراب الطريق (1005)
الآدمي بين النضج والضمور ! (1)
نشر بجريدة المال الخميس 24/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
المفترض الواجب أن يزيد فهم الآدمي بزيادة أيامه في الدنيا، ففي زيادتها فرصة أطول للمعرفة والنضج والفهم، لكن هذا لا يحدث في كل الأحوال بل يكاد لا يحدث إلاّ نادرًا.. علّة ذلك أننا في الأعم الأغلب نركن مكتفين بما بلغنا إليه.. متصورين بأنه سيبقى معنا ما بقينـا إن بقيـت أيامنـا.. بينما هو لا يبقى إن لم نبق حريصين على الزيادة في الفهم، يقظين معنيين بالفطنة والانتباه إلى آخر لحظة ممكنة، وإلاّ رجعنا القهقري بسرعة سيرًا إلى الخلف.. مرتدين عقليًا ونضجًا إلى المراهقة، وأحيانًا غير قليلة إلى الصغر برغم طول العمر بحساب السنين !.. هذا الرجوع يطرد في النقص المتزايد بدلاً من الاستمرار في زيادة الإدراك والرشد.. يحدث هذا لأن الحياة صائرة دائمًا، في حركة دائبة، والجمود عن متابعتها توقف يشكل بالقياس إلى حركتها تراجعًا.. يتراكم ذلك نتيجة الاعتياد الطويل على الاسترخاء والكسل وقلة المبالاة بضرورة أداء الواجبات المفروض أن يؤديها الآدمي اليقظ لكي يبقى ملتفتًا يقظًا مراقبًا لاتزان داخله.. هذا الاتزان الواجب المحافظة عليه بين مطالب جده وعقله ونمو إدراكه ومسئولياته وبين ميول عواطفه وغرائزه وقدراته على ترويضها والسيطرة على شرودها وجماحها.. وهذا ممكن للبشر، لكنه غير محبوب ولا محبب لمن يفضل الاستسلام للشهوة على الفضيلة والحكمة، ولمن يؤثر الاستعجال والعنف وقلة الصبر ـ على التؤدة والصبر وتقليب الرأي والتأمل فيه، ويعتاد على ذلك !.. وعلى هذا غالبية البشر قديمًا وحديثًا !!
لأننا فيما يبدو ـ جنس من الأحياء ـ يحاول متثاقلاً الصعود إلى مرتبة من الرقى يتمناها في أعماقه.. لكنه لا يزال مقيدًا بشهواته التي تجره جرًّا إلى هلاكه إن أصر على حاله من الانحطاط الذي يشهده العاقل الآن في أكثر الناس، وقد يجعله ييأس من إمكان زوال هذا الانحطاط وقد يحمله على فقد الثقة في صعود البشرية من كبواتها المتلاحقة. لكن بالمقارنة بين البطء الشديد في الصعود في الماضي وبين حركة الصعود في أيامنا هذه ـ نجد أن خطى الصعود قد اتسعت برغم الأزمات والمعارك والعداوات والنكبات التي نواجهها الآن.. ففي يدنا وعمومنا اليوم شيء لم يكن موجودًا من قبل.. هو الجرأة أو هو المخاطرة أو قلة الاستكانة وعلو الصوت والاستخفاف بالماضي برغم عدم الرضاء عن الحاضر.. ذلك لأن رؤيتنا الآن ـ أيًا كنا وكانت ! ـ أوسع نطاقًا بكثير من رؤية من سبقونا.. ربما بسبب رقى واتساع ويسر ومرونة طرق ووسائل وأدوات النقل والاتصال والانتشار والإذاعة.. فلم يعد يوجد على الأرض مكان يخفي على البشر معرفة كل أو بعض ما يجرى فيه.. كما لم يعد يوجد آدمي لا يمكنه أن ينتقل من مكان أو أن يصل إليه بطريقة أو بأخرى.. حتى المساجين.. فهم يستطيعون الانتقال عبر الأثير وإن امتنع عليهم الانتقال بقوالبهم عبر الأسوار !
والبشر أبناء مستوياتهم المختلفة في كل جيل في كل جماعة.. لكنهم مع ذلك الاختلاف الواضح يصرون في الأعم الأغلب على التمسك بالتعبير عن السلوك والأخلاق والعادات بنفس المقولات والعادات والقيم والأحكام.. ربما لحرصهم الشديد على استبقاء دنياهم بلا تغيير ـ يستحق الذكر.