إهانة الشخصيات التاريخية بين الإباحة والتجريم

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

منذ عام تقريباً، وفي كتابه الصادر في الثاني والعشرين من شهر أغسطس 2023م، بعنوان «نول الزمن.. بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر المتوسط إلى الصين»، طرح عالم السياسة الأمريكي روبرت كابلان أسئلة كثيرة، من بينها التساؤل عن كيفية تعامل دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط مع العولمة وعن السبب وراء نسيان هذه الدول والشعوب تاريخها. وقد زار المؤلف المدن الكبرى بالمنطقة، وبينها القاهرة، وخالط الناس، فجاء الكتاب متميزاً بالحيوية ومعرفة توجهات الناس عن قرب. راجع:

Robert D. Kaplan, The Loom of Time: Between Empire and Anarchy, from the Mediterranean to China, 2023.

 

وجدير بالذكر في هذا الصدد أن «النول» آلة نسيج يدوية استخدمها المصريون قبل أربعة آلاف عام، وهي عبارة عن آلة خشبية تستخدم في غزل وحياكة السجاد التقليدي وغزل وحياكة الملابس، وظهرت في مصر لأول مرة في عهد الفراعنة. وكانت صناعة النول اليدوية تعتمد في الماضي على «صوف الغنم»، لكنها تعتمد في الوقت الراهن على القطن والحرير. ويبدو أن استخدام لفظ «النول» (The Loom of Time) في عنوان الكتاب مقصوداً، للتأكيد على أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية للأمم والشعوب، وإدراك أهمية التاريخ في حياة المجتمعات، وأهمية الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي.

 

وفيما يتعلق بالتراث الثقافي غير المادي، والعادات السائدة في المجتمع المصري، رصد المؤلف المشهد التالي في القاهرة 2022م: «لا يزال الرجال والنساء يسيرون فى مجموعات، وأحياناً يمسكون أيادي بعضهم البعض. يرتدون ملابس غربية بدلاً من ملابس السبعينيات وما قبلها، الأقرب إلى الأزياء التقليدية. عدد لا بأس به من الفتيات يرتدين الحجاب والثياب السوداء الضيقة. كانت أذرعهن عارية فى حالات قليلة، كاشفات عن أنفسهن ومتغطيات فى الوقت نفسه». ورصد روبرت كابلان ملاحظة أخرى في المجتمع المصري وغيره من شعوب المنطقة: «فى الشرق الأوسط، ترى طبقة عالمية منتشرة تستخدم الآى فون ويستمعون للموسيقى الغربية. وهناك قطاعات أخرى ترفض العولمة. ربما لأنهم لا يستطيعون المنافسة، أو يشعرون أن ذلك يسئ إلى قيمهم».

 

وثمة ملاحظة أخرى ثاقبة يبديها المؤلف في كتابه سالف الذكر، مؤكداً من خلالها أن المصريين ينسون تاريخهم، ومستدلاً على ذلك بالقول: «كان هناك سياسي عظيم فى عشرينيات القرن الماضي اسمه سعد زغلول. وخلال الربيع العربي 2011، لم تسمع اسمه على الإطلاق. زغلول قاد ربيعاً آخر ضد البريطانيين لكن لا ذكر له الآن. إنه لأمر مدهش كيف يمكن لجوانب مهمة من التاريخ أن تضيع بين الشقوق». جزء من عدم الاستقرار فقدان الثقافة ونسيان التاريخ. الازدهار فى عصر العولمة يتطلب أن تظل الذاكرة حية. وقد أحسن الكاتب الكبير الأستاذ عبد الله عبد السلام، مدير تحرير الأهرام، من خلال الاهتمام بالإشارة الواردة في الكتاب إلى هذه السمة من سمات المجتمع المصري (راجع: عبد الله عبد السلام، سعد زغلول والقاهرة الجديدة!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، الأحد 6 من صفر 1446هــ الموافق 11 أغسطس 2024م، السنة 149، العدد 50287).

 

والواقع أن ما أشار إليه عالم السياسة الأمريكي، روبرت كابلان، يجعلنا نتذكر إحدى العبارات الشهيرة التي وردت في رواية «أولاد حارتنا»، للأديب المصري العالمي الحائز على جائزة نوبل، نجيب محفوظ، والتي صارت قولاً مأثوراً ومثلاً متداولاً يعبر بصدق عن إحدى سمات الشخصية المصرية، وهي (آفة حارتنا النسيان). فهذه العبارة ليست مجرد بضع كلمات في رواية أحدثت الكثير من الجدل، وإنما هي ببساطة شديدة اختصار موجز لطريقة تفكير شعب أصبح ينسى كل شيء، وينسى أعظم حضارة أقامها للإنسانية من سبعة آلاف سنة، وينسى العديد من الشخصيات التاريخية التي أثرت كثيراً في مسيرة المجتمع والدولة المصرية. فلا نجد حضوراً في العقل الجمعي المصري يعادل حضور شارل مان ونابليون بونابرت في الذاكرة الفرنسية وجورج واشنطن وإبراهام لينكولن في الذاكرة الأمريكية. وقد كان أحد الكتاب أكثر تفاؤلاً، وأقل حدة في وصف الذاكرة الجمعية المصرية، فاستخدم عبارة أخف وطأة، وهي «آفة حارتنا الاختزال»، مؤكداً أن «أحد أبرز الألغاز الذي يستعصي على فهمي، أننا كمصريين عندما نتباهى بعظمائنا، لا تسعفنا الذاكرة إلا باسم أو اسمين فى أي مجال. تاريخ مصر الضارب فى القدم والمليء بالأبطال والعظماء يجرى اختزاله إلى ثنائيات أو أسماء قليلة للغاية. عندما نستدعى التاريخ الفرعوني المجيد، لا يظهر أمامنا سوى أحمس ورمسيس وربما حتشبسوت، وعندما نقرأ عن أبطال مصر الذين قاوموا الحملة الفرنسية لن تجد سوى عمر مكرم ومحمد كُرّيم. فى التاريخ الحديث. المصيبة أعظم. عظماء القرن التاسع عشر رفاعة الطهطاوي وعرابي ومحمد عبده، وعلى استحياء على مبارك. زعماؤنا فى القرن العشرين: سعد زغلول وعبد الناصر وفقط، مع أن القائمة تطول وتطول لكن الذاكرة المصرية مثقوبة ليس فيها متسع. فى الأدب، هناك طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، والباقون «سنيدة» أو لا يستحقون الذكر. فى الفن هناك، سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وربما عبد الحليم. أما فى الصحافة، فليس سوى هيكل ومصطفى أمين. وهكذا الأمر فى الفكر والثقافة والشعر والسينما والمسرح والجامعة والاقتصاد.. هل هناك أحد غير طلعت حرب؟» (الكاتب الكبير الأستاذ عبد الله عبد السلام، آفة حارتنا الاختزال!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، السبت 15 من ربيع الأول 1445هــ الموافق 30 سبتمبر 2023م، السنة 148، العدد 49971). ووفقاً لرأي الكاتب الكبير، «المشكلة أن بعضاً من النخبة المسيطرة على الثقافة والإعلام والصحافة يعاني الكسل العقلي والفكري، فيلجأ لهذه الانتقائية غير المنطقية التي تستبعد طبقات وطبقات من أكابر المصريين علمياً وثقافياً وفنياً وأدبياً وتحصرهم فى دستة أسماء فقط».

 

وليت الأمر قد وقف عند حد الكسل العقلي والفكري لدى «النخبة» أو من يُطلق عليهم هذا الوصف. إذ تفرغ بعض هؤلاء للهجوم على الشخصيات التاريخية المصرية.        ولا يخفى على أحد الهجوم المتكرر من الأديب يوسف زيدان على الشخصيات التاريخية الوطنية، وبحيث يطل علينا من آن لآخر، مثيراً زوبعة جديدة، حتى غدا ذلك عادة أو سلوكاً منتظماً مطرداً يحرص عليه ويأبى أن يتخلى عنه. ففي أحد البرامج الحوارية التليفزيونية، اتهم الناصر صلاح الدين الأيوبي بأنه من أحقر شخصيات التاريخ، وأنه قد أحرق مكتبة القصر الكبير، وأنه قد عزل الرجال العبيدين (الفاطميين) عن النساء لكي يقطع نسلهم. ولكنه قال أيضاً في نفس الحلقة نقلاً عن ابن خلدون أنه لابد من إعمال العقل في الخبر. وواصل الكاتب يوسف زيدان، تطاوله على الزعيم الراحل أحمد عرابي، والإساءة له رغم مماته والتقليل من شأنه ودوره الوطني والبطولي ضد الإنجليز، واستعان زيدان ببعض أبيات الشاعر أحمد شوقي، فى محاولة لتزييف التاريخ ولدحض إنجازاته. أكد أن الزعيم الراحل أحمد عرابي كان سببا لضياع الوطن ودخوله فى نفق مظلم واستعمار دام لأكثر من 70 عاما، مضيفا أن المناهج الدراسية بها الكثير من الأخطاء، مثل وقوف أحمد عرابي أمام الملك، نافياً رؤية أحمد عرابي الخديوي توفيق. ولدعم موقفه من الثورة العرابية، كتب يوسف زيدان على صفحته الشخصية (فيس بوك) مقتطف من أبيات أحمد شوقي: صغارٌ فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابي _ عفا عنك الأباعدُ والأدانى.. فمن يعفو عن الوطن المصاب، وذلك فى اشارة لشوقي وموقفه السلبي من ثورة عرابي. إذ أن أمير الشعراء أحمد شوقي استقبل عرابي بعد عودته من المنفى بقصيدة نشرت فى (المجلة المصرية) لصاحبها ومنشئها خليل مطران، العدد الثاني فى 15 يونيو 1901. وقعها بإمضاء (نديم)، وفيها تشهير واستهزاء بعرابي وتطلعه لأن يكون ملكا على مصر. وزعم يوسف زيدان فى منشور آخر على صفحته، مفادها أن التاريخ ملئ بالشوائب والمعلومات المغلوطة، والخوف من الاقتراب أو المساس به، حيث قال «إذا كان إلقاء بعض الحصوات فى البحيرة الراكدة، العطنة، يحدث هذه الحركة وهذا الفزع.. فماذا لو ألقينا أحجارا!».

 

ولم يقف الأمر عند حد الشخصيات السياسية، وإنما امتد إلى غيرها من الشخصيات الثقافية والأكاديمية. ففي شهر مايو الماضي، وخلال مؤتمرها الأول للإعلان عن نشأتها، أثارت مؤسسة «تكوين» الفكر العربي جدلاً في أوساط المثقفين، بسبب تصريحات للباحث السوري فراس السواح والدكتور يوسف زيدان حول الأديب الراحل طه حسين. ففي معرض سؤال الأديب يوسف زيدان للباحث السوري عمن أفضل أنت أم طه حسين؟، رد السواح «أنا وأنت أفضل من طه حسين».

 

والواقع أن فقه القانون الجنائي قد تناول موضوع القذف ضد ميت، متسائلاً عما إذا كان القانون يعاقب على القذف ضد الأموات، ومؤكداً أن لهذا التساؤل أهميته حين يتناول المؤرخ شخصية عامة كزعيم وطني أو شخصية عامة، مات منذ وقت غير بعيد، فينسب إليه وقائع محقرة ويحكم عليه حكماً يشينه، ويغلب أن يكون له أبناء أو أحفاد أو أرملة على قيد الحياة يؤلم نفوسهم ما ينسب إلى مورثهم، وقد يمس مكانتهم الاجتماعية. ومن ثم، يرى الفقهاء وشراح القانون الجنائي أن هذا القذف لا يقع تحت طائلة العقاب إلا إذا كان من شأنه المساس بشرف الورثة الأحياء، مؤكدين أن هذا الرأي يكفل حرية البحث التاريخي: فإذا تناول المؤرخ شخصية المتوفى ونسب إليها وقائع صحيحة أو يعتقد في صحتها، فلا يسأل عن قذف طالما لم تتوافر لديه نية المساس بشرف الورثة، وإنما كان رائده خدمة الحقيقة التاريخية فحسب (راجع على سبيل المثال: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، سنة 2012م، رقم 849، ص 713 وما بعدها).

 

ولكن، يبقى التساؤل قائماً إذا كانت الوقائع المنسوبة إلى الشخصية التاريخية أو الأوصاف التي أسبغها البعض عليه لم يقم دليل على صحتها، كما هو الشأن في وصف صلاح الدين الأيوبي بأنه «أحقر شخصية في التاريخ»، وأنه قد أحرق مكتبة القصر الكبير، وأنه قد عزل الرجال العبيدين (الفاطميين) عن النساء لكي يقطع نسلهم.

 

ويبدو أن قصور نصوص التشريع الساري حالياً عن شمول هذه الوقائع بالتجريم، ونظراً لأن الأمر لا يتوقف عند حد حماية الورثة الأحياء، وإنما يمتد إلى حماية العقل الجمعي الوطني والاحترام الواجب للشخصيات التاريخية الوطنية، لذا ارتأى البعض من المناسب تجريم إهانة الرموز التاريخية. ففي دور انعقاده الذي بدأ في شهر أكتوبر 2018م، كان من المقرر أن يناقش مجلس النواب مشروع قانون تجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية المقدم من النائب عمر حمروش أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف، والذي سبق لرئيس مجلس النواب آنذاك أن قام بإحالته إلى لجنة مشتركة من لجنتي الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الإعلام والثقافة والآثار. وبحسب مقدم مشروع القانون، فإن الهدف منه حماية الرموز والشخصيات التاريخية من العبث وعدم خداع الشعب بتشوية صورتهم، والإضرار بالمجتمع وزعزعة الثقة لدى الشباب فى الرموز والشخصيات التاريخية، وإثارة الجدل حول شخصيات ورموز تاريخية والتي قد تؤدى إلى آثار خطيرة على المجتمع. وتضمنت المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون أن هناك إصرار فى التهكم على الرموز والشخصيات التاريخية وخاصة من انتقلوا لرحمة الله، وأن الجدل الذي يحدث من إساءة لبعض الرموز التاريخية خطر وله آثار سلبية على الشعب المصري، وزعزعة الثقة ونشر الإحباط، وهو الأمر الذي يسعى له قوى الشر.

 

ووفقاً للمادة الأولى من مشروع القانون سالف الذكر، «يحظر التعرض بالإهانة لأي من الرموز والشخصيات التاريخية، وذلك وفقا لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له، ويقصد بالرموز والشخصيات التاريخية الواردة فى الكتب والتي تكون جزء من تاريخ الدولة وتشكل الوثائق الرسمية للدولة، وذلك وفقا لما اللائحة التنفيذية له». ونصت المادة الثالثة من مشروع القانون على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد عن 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد عن 500 ألف كل من أساء للرموز الشخصيات التاريخية، وفى حالة العودة يعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد عن 7 وغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تزيد عن مليون جنيه». أما المادة الرابعة من مشروع القانون، فتنص على أن «يعفى من العقاب كل من تعرض للرموز التاريخية بغرض تقييم التصرفات والقرارات وذلك فى الدراسات والأبحاث العلمية».

 

ولكن، ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات، ورغم تكرار وقائع التهجم غير المبرر على العديد من الشخصيات التاريخية الوطنية، فإن مشروع القانون سالف الذكر لم يتسن مناقشته في مجلس النواب، ولم ير بالتالي النور حتى تاريخه.

 

زر الذهاب إلى الأعلى