أمام الأديان
أمام الأديان
نشر بجريدة الشروق الخميس 10/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من العسير على الكثيرين من المتدينين المؤمنين بالأنبياء ـ أن يذكروا أسبابًا لتفضيلهم الدين الذي يعتقدونه على سواه، ناهيك بأن يكون أمام الأديان، ومرد هذا فيما يرى الأستاذ العقاد إلى العجز عن تعليل اختيارهم عقلاً لمن اختاروه من الأنبياء، فحضور العاطفة لا يكفي وحده لتعليل التفضيل ناهيك بالإمامة، وإنما يحتاج أساسًا إلى القدرة العقلية على هذا التفضيل في إطار العقل ومقتضياته.
بيد أن المسلم له فيما ـ يحتج الأستاذ العقاد ـ له عصمة في عقيدته تحميه من هذا العجز الذي يعيب العقل ويعيب العقيدة معًا، ففضلاً عن أنه دين التفكير، فإن المسلم يؤمن بجميع الرسالات، ويوقر جميع الرسل والأنبياء، ولا ينكر إلاَّ ما نسخته الشرائع النبوية لاختلاف مقتضيات الزمـن، أو ما ينكره العقل الذي ينكر ما أضافه المتدينون للأديان السابقة من خرافات أو من أوشاب العبادات التي اختلطت ببقايا الوثنية..
ومع إيمان المسلم برسالات الأنبياء المرسلين ـ يتفتح أمامه التفكير والاحتكام إلى العقل باعتقاده أن الأنبياء والمرسلين سيتفاضلون ويحق له التمييز بين دعواتهم بما لها من حجة وما فيها من هداية.. وهو يقرأ في كتابه المبين: « وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ » (الإسراء 55 )، ويقرأ: « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ » ( البقرة 253 ).
* * *
والمسلم لا يسعه أن يهمل عقله أمام الأديان والرسالات كافة حين يوفق بين واجب الإيمان بها في أصولها وقواعدها، وواجب الإعراض عما اختلط بها من أوشاب الخرافة أو الضلالة.. ذلك لأن العقل هو مرجعه الأول في التوفيق بين هذين الواجبين.
ويستعرض الأستاذ العقاد بعض ما ورد من روايات عن بعض الأنبياء في أسفار العهد القديم، فيورد ما قصَّه الإصحاح التاسع من سفر التكوين عن شرب نوح للخمر وتعريه داخل خبائه ورؤية حام وكنعان لعورة أبيهما وإخبار سام ويافث إلى آخر القصة، وأورد ما قصَّه الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين عن اضطجاع لوط مع ابنتيه بعد أن سقتاه الخمر، وأورد ما قصَّه الإصحاح الخامس والعشرون من ذات سفر التكوين عن يعقوب وأخيه عيسو وما قيل فيه عن بيع عيسو بكوريته لأخيه يعقوب، وما رواه الإصحاح السابع والعشرون من أن إسحق شاخ وكَلَّت عيناه ودعا عيسو ابنه الأكبر، وكلفه بالصيد في البرية وأن يأتي إليه بما يصطاده ليأكل، وكيف استمعت « رفقة » إلى هذا الحديث فأبلغته إلى يعقوب وظلت تأمره وتحرضه حتى أتت إليه بالثياب الفاخرة لأخيه الأكبر عيسو، وبالأطعمة والخبز، ليدخل على أبيه إسحق على أنه عيسو وينال منه الوعد والبركة بدلاً من أخيه الأكبر، وأشار الأستاذ العقاد إلى ما ورد بالعهد القديم عن داود عليه السلام من قصص كثيرة ذكر منها قصته مع قائده « أوريا » وزوجته طبقًا لرواية الإصحاح الحادي عشر من كتاب صمويل الثاني، وكيف أرسله للحرب وأخذ زوجته واضطجع معها، وحبلت منه، وكيف استدعى داود أوريا الحثى وأسكره ثم وجهه إلى الحرب الشديدة وأوصى من بعثهم معه أن يرجعوا ويتركوه وراءهم فَيُضْرب ويموت، وكيف أن ما فعله داود قبح في عين الرب.
وقد حرص الأستاذ العقاد أن يورد « نصوص » العهد القديم التي لخصتها لك كما هي، ليكون الحديث حديثها لا حديثه، وأشار إلى وجود أمثال هذه الروايات عن أنبياء مذكورين في التوراة كقصة « هوشع » في سفر هوشع، بدعوى أن الرب قال له: « اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب.. إلى آخر القصة »، وما ورد بالإصحاح التالي لهذا الإصحـاح، مـن روايـة هوشع نفسـه الذي قال برواية التـوراة: « وقال الرب لى اذهب أيضًا أحب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبنى إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى »…. إلى آخر الرواية.
* * *
على أن الأستاذ العقاد إذ أورد هذه الروايات بنصها في إصحاحات أسفار العهد القديم، فإنه أبدى أنه أورد ما أورده دون أن يناقشه أو يتعرض لنفيه أو إثباته، لأنه لم يكتب هذه الفصول ليخوض في جدل ديني لا صلة له بما يتغيَّا بيانه من فريضة التفكير في الإسلام.
وإنما أوردها ليستخلص منها منهج الإنسان أمام الأديان كما يتعلمه من الإسلام، ومنهجه من الإسلام كما يتعلمه من غيره.
فالذين يقبلون هذه النبوات ويكذبون برسالة عيسى ومحمد عليهما السلام، أو يكذبون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام وحدها ـ يقبلون ما ورد بكتابهم عن أنبيائهم دون أن تقوم عندهم حجة النبوة بقداسة أو بعظمة مروية، ولا بفضيلة الهداية في آدابهـا ومعانيها.
أما الإسلام، فإنه إذ علَّم المسلم أن يقبل جميع الرسالات ولا يرفض منها شيئًا لغير سبب يفقهه ويقيم الحجة عليه، فإن فضل الإسلام لديه ليس لمجرد أنه دينه وكفي، وإنما لأنه يدعوه في كل عقيدة دينية إلى ما هو خير عنده مما تدعو إليه الأديان عامة.
أما النبوة التي يدين بها المسلم، فهي نبوة الهداية التي ترشد العقل بالبينة والموعظة الحسنة، ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة أو بالحماية من مجهول.
والإنسان في عقيدة المسلم والإسلام ـ مخلوق مكلف ينجو بعمله لا بوساطة لا فضل له فيها، ويحمل وزره ولا يحمل وزر غيره أو أوزارًا موروثة من ميراث الآباء الأولين.
وكل مفاضلة بين عقيدة وعقيدة عند المسلم ـ إنما مردّها إلى سبب، وأن هـذا السبب قائم على فضيلة يفهمها العقل ويطمئن إليها الضمير.. وقد يختلف فيها الغيب والشهادة، ولكنه اختلاف لا يصدم العقل فيما تقرر لديه، وإنما يفوقه بما يتممه إذا انتهي إلى غاية مداه.
الاجتهاد في الدين
ولا مراء أن الاجتهاد في الدين، علامة قوية من علامات احترامه العقل والتفكير، ووجوب استخدامهما في فهم الدين، وبيان عقائده وأحكامه التي أريد بها أن توافق كل زمان ومكان، وأن تلبى احتياجات الإنسان في زمانه ومكانه ليستقيم على أحكام يفهمها للدين.
في مقدمة مصادر الشرع والأحكام في الدين الإسلامي، وبها استهل الأستاذ العقاد: الكتاب، والسنة، والإجماع.
وأبدى أن الإجماع يقوم على اجتهاد أولى الأمر وأهل الذكر بما اشتمل عليه من قياس واستحسان أو مصالح مرسلة، أي مصالح لم تتقيد فيما يقول بحكم خاص ينطبق عليها في جميع الأحوال وجميع الأزمنة.
ولا مراء أن الترتيب الذي أورده للمصادر الشرعية هو الصحيح المتفق مع آراء الفقهاء وكتب أصول الفقه وإن كانت هناك مصادر أخرى للتشريع بعد هذه المصادر، ولكنه أدمج بعد ذلك مصادر التشريع ووسائل الاستنباط، فاعتبر أن وسيلة الإجماع في الاجتهاد هي القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وهذا صحيح، ولكنه ليس الصحيح كله.. فالوسائل الثلاث التي ذكرها للاجتهاد لتحصيل الإجماع، هي بالفعل من وسائل الاجتهاد واستنباط الأحكام، معدودة أيضًا من مصادر التشريع، هذا إلى أن هذه الوسائل كما هي أدوات الاجتهاد لتحصيل الإجماع، فإنها أيضًا أدوات استنباط الأحكام من كل من الكتاب والسنة المصدرين الأول والثاني للتشريع.
والمتفق عليه بين جمهور الفقهاء، أن مصادر التشريع الإسلامي هي: القرآن، والسنة، والإجماع، وفتوى الصحابي، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف فيما لا يخالف النص، والذرائع، والاستصحاب، ثم شرع فيما لا يخالف الإسلام.
ومن هذه المصادر، بعد الكتاب والسنة والإجماع، ما هو معدود في ذات الوقت من مصادر الاجتهاد، للتعرف على الأحكام الشرعية في الإسلام وهو ما سنستأنف بيانه في المقال القادم.