إطراء النفس!
إطراء النفس!
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 12 / 6 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
بدا لي من تأمل أحوال الناس، أن المبالغة في النظر إلى الذات شيء فطري، يرجع في ظني إلى أن شعور الآدمي ابتداءً وانتهاءً هو شعوره بذاته ونفسه.. وأن هذا الشعور أساس لشعوره بكل ما عداه.. حتى شعوره بوجود الخالق عز وجل.
ويبدو أن كل ما اكتسبه ويكتسبه الآدمي مؤقت مرتبط بزمن وظروف. لأن ما نكتسبه فيه دخل قليل أو كثير للمخيلة. والمخيلة لا تعمل خارج الزمن والظروف، سواء أكان عملها واعيًا أو غير واع، إراديًا أو غير إرادي. ولولا الوعي واستعداده للنمو والحافظة وقدرتها على الاختزان، والمخيلة ووثبها على الزمن والمكان ونشاطها الذي لا ينقطع في الحلم واليقظة، ولولا اختلاف الأعمار والأجناس ودرجات الاستعداد لا نقضي كل ما يكتسبه بسرعة كما ينقضي كل ما يكتسبه أي من تلك الأحيـاء الأخرى التي ليس لأجناسها وأنواعها عدد. ولعل هذا هو سرّ عدم المبالاة الذي يقابل به عالم الأحياء جميع ما حققه الآدمي وما بناه وما عرفه وما يحاول أن يحققه أو يبنيه أو يعرفه، مما نسميه خيرًا أو شرًا، جميلاً أو قبيحًا، منفردًا أو مجتمعًا!
ونحن نحب إطراء أنفسنا لأننا نحب أن نعيش. ونعجب بعملنا إعجابـًا شديدًا إذا ظننا أننا أحسناه أو أتقناه ـ وهو ظن قد يكـون خاليًا مـن الأساس، لا يستند إلى دراسة أو مقارنة موضوعية جدية.. كم منا هام إعجابًا وتيهًا بنفسه، لأى عمل أجراه، أو مقال دبجـه، أو لوحة رسمها، أو معزوفة لحنها، أو خطبة عصماء ألقاها، أو حديقة زرعها وشذبها ونسقها، وقد يمتد التيه بالذات وبإنتاجها وأعمالها إلى السفاسف والتفاهات !! يتجاهل المعجب التائه بذاته وما يصنع، أعمال ألوف المحترفين والموهوبين، ويفترض أن من حقه أن يعجب بنفسه وعمله هذا الإعجاب المرضى لأنه تجاوز في تقديره لنفسه معايير الآدميين العاديين.. وهذا خيال ووهم يصوره كل منا لنفسه ـ على هواه !!.. لا يلتزم فيما يضفيه على نفسه من أمجاد ـ بما هو مقرر في معايير وأصول وأعراف أهل العلوم والفنون والآداب والصناعات الذين يمارسـون هـذه الأنشطة علـى الـدوام أو علـى وجـه الاحتراف، فيتقيدون بمستوى لا ينزلون عنه من الخبرة والمعرفة والمهارة!
لا نهاية لميادين العلم والمعرفة، لأنه لا نهاية لآمال الآدمي في عقله وسعيه، ولا نهاية لعقل الآدمي وسعيه لأنه لا نهاية لآماله فيما هو أفضل مما بين يديه.. لا يتوقف الآدمي عن الأمل، مستقبله هو أمله، وأمله هو مستقبله.. من يدرك « الأمل » ودوره، يدرك أن حياة الآدميين لا تتكرر في قوالب وأنماط ثابتة إلاّ إذا انطفأت في الآدمي جذوة الأمل أو انقلبت آماله سلبية محصورة في إبعاد ما يكذب أو يدحض ما معنا من الحاضـر، واستبعاد ما يوقظنا إلى ما في حاضرنا من قصور أو غلـط أو تهافت أو خيبة أو انحـراف.. فـلا شيء أفضل مما نحن فيه، وليس في الإمكان أبدع مما كان !!!
حياة الآدمي الواعية على هذه الأرض، حياة تتألف دائمًا من عالمين لا غناء لأحدهما عن الآخـر: « عالم الآمال »، وهو عالم أساسي للآدمي يشحنه بوقود الحياة، ويلزمه لاستمرار رغبته في الحياة، من التفاؤل والاستبشار وحسن الظن وحسن النية، و« عالم الواقع » الخشن الجامد، العابس أو الخالي أحيانًا من اللين ومن العواطف، الذي يشعر الآدمي من آن لآخر بضآلته وعجزه وحتمية زواله، وربما صادر على آماله، أو ردها إلى الحدود المعقولة التي توافق ظروف الزمان والمكـان ومـا قد تتأبى به على طموحه وآماله الشخصية !.. « عالم الأمل » ـ لا يعنى الهروب المخدور من الواقع ولا بناء قصور الوهم والخيال في الهواء، ولا هو أمل العاشقين الذي صاغه بيرم التونسي وغنته أم كلثوم:
« بالأمل أسهر ليالي، في الخيال أبنى العلالي »..
وإنما هو شعلة تضيء روح الآدمي وتدفعه إلى الأمام والجد في أنشودة الحياة طلبًا للنور والجمال والكمال والحق !