إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (4)
من تراب الطريق (1061)
إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (4)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 16/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
نسيان حصول الموت، وهو طبيعي غير مستغرب للآدمي الصحيح في صباه وشبابه ورجولته وكهولته.. هذا النسيان غير مستغرب لقوة وتدفق الحياة لديه برغم أن حياته عرضة بقدر أو بآخر للمخاطر والتراجع، ولكن هذه كلها لا تدخل في حساب الآدمي المألوف المعتاد في سير حياته السليمة.. ولذا وجدت بيوت الآدميين في القرى والعمارات والقصور في المدن، كما وجدت في الطرقات والسكك الحديدية والسيارات ووسائل النقل الأخرى.. تحلق الطائرات نهارًا وليلاً ولا تكف السفن والمراكب عن تجوالها في البحار والأنهار والبحيرات بأحمالها وركابها المهيأة للنزول أو المعدة للسفر.. هذه الحركة الدائبة دون توقف نهارًا وليلاً في كل ميناء وسوق ومرفأ ومحطة ومطار ومرسى وميدان، هي في الغالب الأغلب حركة انطلاقية اندفاعية لا يضبطها حتمًا وصدقًا أمن أو قانون.. اعتادها ويعتادها وسيعتادها كل من له مصلحة أو شأن أو خدمة أو عمل أو فرصة أو مكر أو حيلة برغم وجود عناصر الضبط والربط والسلطة والشرطة.. فهذه لم تملك ولا تملك السيطرة الكاملة في أى زمن أو مكان على النظام العام.. وسطوتها وسيطرتها مهما كانت نسبية محدودة.. قد تخيف أو لا تخيف وتقبض أو لا تقبض على الشقى إن عرفته وطالت يدها إليه . ولذا عرف البشر في كل زمان ومكان اختلاط الصدق بالكذب والحق بالباطل والنظام بالخلل والعدل بالظلم.. ولم ينقطع ذلك المرج الدائب الحركة تقدمًا ثم تأخرًا في أية جماعة بالغة ما بلغت من المجد والسؤدد في تركيز أعلامها وأبطالها ومشاهيرها وأفذاذها.. فهذا كله يجرى عليه الانكماش والذبول. إذ يدخل بدوره في طول الليل وقصور النهار في كثرة المشاكل والمتاعب والمشاق، وتقل لديه أسباب القوة والجدارة والفوز ـ مع الحرص ما أمكن ـ على التمسك بعظمة المقام والتذكير بالأحلام التى باتت تاريخًا فقط !
إننا برغم تغيرنا الدائم، نهمل الشعور به والالتفات إليه.. وهذا التغير واقع جارٍ حاصل لايبالى برضائنا وسخطنا وغنانا وفقرنا وعطفنا وقوتنا وعلمنا وجهلنا.. ونحن فيما نحن فيه لا نحس بهذا التغير إلا بين الحين والحين، ولا نهتم كثيرًا أو قليلاً إلا بالأحداث دون الأسباب التى تحدثها أو تساعد على حدوثها !
وإلى يومنا هذا لم يلتفت عامة البشر وخاصتهم إلى ضرورة الاتصال الدائم بين سلوكنا المعتاد في حياة كل منا وبين فهمنا الفعلى الجاد لوجود هذا التغير باستمرار موجب أو سالب.. ناهيك بالالتفات اليقظ الفطن الذى يراعى الاستعداد لمسايرة وموافقة ومصاحبة هذا التغير الحتمى الذى لا ينبغى للعاقل أن ينساه قط.. هذا النسيان الذى نحن عليه إلى اليوم
والغد !!!.. ناهيك بالأمس !
مازلنا جميعًا في خصوصنا وعمومنا كما كنا من قرون طويلة.. مع فروق غير رئيسية وغير هامة وقتية لا ينقطع تغيرها وتداولها واختلافها وتعديلها وتبديلها دون تعكير أو مصادرة، فيما عدا طقوس الأديان والملل والنحل.. وهى طقوس وقواعد وأعراف جمدت تمامًا في المحافظة على ما انتهت إليه من أربعة قرون ولم تعد قابلة لأى تغير جذرى حقيقى ناهض لعصره وزمنه، بل هى قابلة فقط للدفاع شبه الممكن لبقاء ما يُظن أنه بقى من ماضيه الذى يجره حاضره باستمرار إلى طريق الزوال والانطفاء النهائى.. فالحضارة الحديثة قد تركت الأديان إلى غير رجعة في التفاتها هذا الجنونى إلى منافع ومكاسب الأنا التى انشغلت كلية بخارجها.. حيث تطارد صباح مساء ذلك الخارج وتمعن في تتبعه بغير مبالاة في الاستئثار به والحرص الشديد عليه.. كأن حياة الآدمي لا تعرف لها نهاية من بداية صغيرة حقيرة !!! لا يذكرها صاحبها قط إن اشتد عوده وقوى واطرد نجاحه فأقره وثبته ودعمه وجعله يتخيل أنه بات من الخالدين.. فلم تعد الدنيا كما كانت من قبل في القرون الماضية تمارس نفس الصناعة أو التجارة أو التمويل أو الزراعة الماضية بنفس التواضع والقناعة والرضا بالمقادير، بل انقلبت الدنيا كليًّا وجزئيًّا إلى مضمار هائل لا يعرف النوم، ولا يميز بين النهار والليل.. اختلط فيه الحاكم القادر القاهر الفاجر بمعاونيه من كل طبقة ونوع ـ واحدًا أو متعددًا ـ بحسب زمن التوافق أو التنافر، ونازعه وينازعه المحكوم الدائم القلق والسخط والاعتراض والاستعداد للتغيير والتبديل بداع أو آخر.. لا ينقطع سببه لضيق الخلق وسطحية الرؤية المتقلبة وسرعة الانتقال من رضا إلى سخط وتمرد وهياج يقمع أو لا يقمع.. هكذا بتنا وأصبحنا اليوم والغد.. لا يوجد فارق أساسى صلب لائق للدوام بين الجماعات المتقدمة المتحضرة الغنية وشبه الغنية، وبين سواها من الجماعات التى تحاول الترقى، المعروف والمألوف في عصرنا والجماعات التى لم تحاوله بعد وهى غير كثيرة .