إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (3)
من تراب الطريق (1060)
إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (3)
نشر بجريدة المال الاثنين 15/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامي
جماعات الآدميين من قديم الزمن حتى الآن، إما حكام أو محكومون منفصلون، وإما حكام ومحكومون معًا، فضلاً عن جيش المحكومين فقط.. هذا فيما عدا الأسرة التي هي كفالة أو رعاية أو قيادة رجلها الأغلب الأعم.. فقيرًا كان أو غنيًا.. يقود عادة الزوجة والأولاد ومن حكمهم إلى أن ينفصلوا بحكم الشبوب عن الطوق أو إتمام التعليم أو الزواج أو الاستقلال بالعمل وبالحياة.
أما العبيد ذكورًا كانوا أو إناثًا، فقد كانوا سيادة سادتهم العمر كله إلى أن يحرر السيد عبده أو تحرر السيدة عبدها.. وقد اخت الآن تقريبًا وجود العبيد لتحريم العبودية.. ولكن بقى وزاد وطغى ـ نتيجة الفاقة وتوابعها ـ سيل الصعاليك من الجنسين والأوباش والساقطين والساقطات.. نرى ذلك تقريبًا كل جماعة.. ولم تجن الجماعات البشرية شيئًا يذكر من تحريم العبودية.. فالآدميون حتى اليوم أسرى عبودية من أنواع أخرى.. فهم لا يختارون لحاضرهم أو لمستقبلهم إلاّ اختيارات براقة سطحية.. يظنون لأول وهلة أنها غاية النفع والجدوى وأنها سوف تدخلهم وتدخل البشرية عالم لامع خيّر جدًّا لن ينقضى خيره وفضله على الإنسانية قط.. وقد تكررت هذه المحاولات مرات عديدة كما رأينا القرن الماضى، لتنتهى إما بحروب عالمية هائلة لا يفلت من آثارها المخربة إلاّ نادر النادر، وإما بانتكاسات تشتعل هنا وهناك، وأزمات ونكبات بدأت باندفاعات ثم بحشود ثم تضحيات.. ثم بإخفاق هائل لعجز الدول الكبرى عن القيام بما أعلنت قدرتها واستعدادها القيام عليه، وحلت أخرى غيرها محلها مع رجاء احتمال التصحيح وتلطيف بلايا الامتهانات والخيانات والقصورات وانعدام الأمانات والمروءات وفقدان الإحساس بجسامة الواجبات العامة.. هذه الواجبات الجوهرية التي لا يصح قط أن يهمل رئيس واع أو ينى عن السهر عليها مادام مكلفًا بالمحافظة عليها وصيانتها.. لأنه لا يخدم ذاته رئاسته بل يخدم رئاسته بمهامها وأعبائها.. يخدمها ويجب أن ينهض على ذلك ابتداءً واستمرارًا وانتهاءً بعيدًا عن الأنانية والجشع والانتهاز والتدليس.. للأسف فقد بات الطمع من سنين غير قليلة وصفًا واقعًا سائغًا مشروعًا لأكابر القوم كل مجتمع، وصار تحقيق هذا المطمع هدفًا ممكنًا لكل ذكى عاقل مجرب حسب كده واستخلاصه.. دون أن يكلف خاطره أو يضيع همه ووقته البحث عن الحرام والحلال الذي لم يعد أحد يعنى بهما، ما دام مقصوده هو الوصول إلى بغيته كلما سنحت له الفرصة لبلوغها وعدم إفلاتها من يده حسب منطق العصر ومنطقه الذي برره لنفسه وارتضاه !.. دنيانا صارت كما نراها، ونعاملها وتعاملنا.. لم يزد سعى الناس فيها عن كونه رؤى وقتية.. سريعة من عقول مشتاقة إلى تحقق الظن والخيال أكثر بكثير من عمق عقولها.. انحازت إليها ومنذ البدايات أفكار الجمهور الساذج الذي صدق دون فحص ـ ما لقنه إليه المروجون اقتناعًا وطمعًا وانتظارًا لكسب قريب !
والآدميون غارقون حتى اليوم التعلق بالعلاقات والصلات ويحسنون الظن بالقرابة أو الجيرة أو النسب أو الخدمة أو طول الاستخدام.. وهذا التعلق لا يزال يشمل أغنياءهم وفقراءهم وكبارهم وصغارهم ومعلميهم وأمييهم وأعلامهم وأذنابهم وذكورهم وإناثهم.. وهو ظن فيه من التأويل والاتكال ما فيه منذ أن عرف البشر الانتشار والانتقال وبلغت الأنانية بهم ما بلغت، وعرف الصغير والكبير عجز الشيخوخة المالكة العاضة بنواجذها على ما تملكه، وعرفوا عراك الأقرباء والأصهار ـ على ما تركه الميت من بعده.. إذ كل آدمى يمسك ويعض بناجذيه على ما أتاه، ولا يترك فرصة لنفسه لنجاح يحققه بعمله الحياة.. علمًا بأنه إن امتد عمره وأفاق لمن حوله ولزوال ما كان يظنه غناءً وثراءً.. مما يتجاذبه الأقوياء المحيطون به.. سوف يرى طلائع إفلاسه الشامل الكامل لفاقة الدنيا وموت الحب.. وسيلمح عيون أخرى ترقب وانتظار انتقال ما كان يكسبه من أموال إلى غيره الذي قد يكون أقرب وأكثر تعلقًا بها وأقدر على الاستمتاع الممكن منها.. وهذا يكاد يكون هو هو ظن الحىّ بالميت الذي مات أو أسرعت خطاه إلى الموت الذي به يفقد ما كان معه من الحياة والمعرفة النافعة والعقل.. فضلاً عن فقد الأنا إلى غير رجعة الدنيا !