إحياء القلوب
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
عندما كتبت عبارة «إحياء القلوب» على محرك البحث جوجل، ظهرت لي إجابة مستندة إلى الذكاء الاصطناعي، وهي: «إحياء القلوب» تعني «إحياء القلوب» بالعربية. يمكن أن تشير إلى عدة معانٍ، منها:
إحياء القلوب بالمعنى الديني: يتعلق هذا الجانب بالدعوة إلى الله، والاجتهاد في عبادته، وتدبر القرآن الكريم، وذكر الله، والتقرب إليه.
إحياء القلوب بالمعنى الاجتماعي: يتعلق هذا الجانب بالعمل الخيري، ومساعدة المحتاجين، وتقديم الدعم للمجتمع، والاهتمام بالأطفال.
إحياء القلوب بالمعنى المجازي: يتعلق هذا الجانب بإعادة الأمل والسعادة إلى النفوس، والتواصل الإيجابي مع الآخرين، وترك الأثر الطيب في حياتهم.
بشكل عام، يشير مصطلح «إحياء القلوب» إلى كل ما يساهم في إحياء الروحانية، والخير، والعلاقات الإيجابية في حياة الإنسان.
ورغم أن الذكاء الاصطناعي يطلب دائماً رأي القارئ في الإجابة، وما إذا كان متفقاً أم مختلفاً معها، مبيناً أنه «قد تتضمن الردود المستندة إلى الذكاء الاصطناعي أخطاء»، فإن هذه الإجابة سديدة في رأيي. وإذا كانت الكتابات التي تركز على الجانب الديني لإيحاء القلوب عديدة، ومنها ما يركز على البعد عن الذنوب، بحيث تقصر الحديث على هذا الشق فقط، فإن الكتابات التي تذكر إحياء القلوب بالمعنى المجازي قليلة. ولذلك، ارتأيت من المناسب أن أكتب هذا المقال، والذي ينصب على أحياء القلوب بالمعنى المجازي، وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعض النماذج المضيئة في تاريخنا الحديث، والتي اتسمت بالهمة العالية والنشاط وامتلاك الإرادة والطموح الذي لا يعرف الحدود.
محمد علي باشا – باني نهضة مصر الحديثة
محمد علي الكبير أو محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي (4 مارس 1769م – 2 أغسطس 1849م)، هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر لمدة تربو على أربعين عاماً، وذلك في الفترة ما بين عامي 1805م إلى 1848م. ويشيع على نطاق واسع وصفه بأنه «مؤسس الدولة المصريَّة الحديثة»، وهي مقولة كان هو نفسه أول من روج لها، واستمرت بعده بشكل منظم وملفت. وقد استطاع محمد علي أن يعتلي عرش مصر بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون والياً عليها، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك والياً على مصر لأكثر من عامين. وخلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكرياً وتعليمياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً، مما جعل من مصر في عهده دولة ذات ثقل إقليمي وعالمي (راجع: محمد علي الكبير، للمؤلف محمد شفيق غربال).
وهكذا، يُؤرَّخ لتاريخ مصر الحديث بدءاً من تولي محمد علي باشا حكم البلاد عام 1805م، بناء على اختيار الشعب المصريِّ له بعدما الثورة الشعبية التي قادها عمر مكرم، وأدت إلى الإطاحة بسلفه «خورشيد باشا». فالرجل القويُّ رابط الجأش القادم من مقدونيا وطن «الإسكندر الأكبر» إلى مصر مهد الحضارة، استطاع أن يؤسِّس في أرض النيل لمشروع نهضة شاملة في كل المجالات السياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة والتعليميَّة، حيث دعَّم أركان حكمه بالتخلُّص من أعدائه السياسيين، وتوسَّع فضمَّ إليه السودان، وتمكَّن من الاستقلال عن الدولة العثمانيَّة محتفظاً لأبنائه بوراثة عرش مصر، وتابع تحديث الجيش المصريِّ وتدريبه على أعلى المستويات، حتى غدا أقوى جيشٍ في الشرق آنذاك، كما أسَّس لمشروعات تنمويَّة ضخمة، وارتقى بنظم التعليم، وأرسل العديد من البعثات العلميَّة إلى أوروبا (راجع: محمد علي، لمؤلفه إلياس الأيوبي).
وللتدليل على مدى الاعتراف الرسمي بالدور العظيم الذي قام به محمد علي باشا في حكم مصر، ربما يكون من المناسب أن نشير إلى سيرته الذاتية وأعماله البطولية وإنجازاته الهائلة، على النحو الذي وردت به في الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية المصرية، حيث يذكر الموقع عن محمد علي باشا المعلومات الآتية:
– ولد عام 1769 بمدينة قولة بمقدونيا (اليونان).
– عندما بلغ سن العاشرة عمل مع والده في تجارة الدخان وتأجير السفن، كما أنه خَلَف والده في رئاسة الجنود غير النظاميين؛ فأبدى شجاعة فائقة.
– قدم إلى مصر عام 1799 ضمن فرقة عسكرية عثمانية للعمل على إخراج الفرنسيين من مصر، لكنّ القوات العثمانية انهزمت في موقعة “أبي قير البرية”، ومن ثمّ عاد إلى بلده.
– قدم مرة أخرى إلى مصر عام 1801 ضمن جيش القبطان حسين الذي جاء ليساعد الإنجليز على إجلاء الفرنسيين عن مصر؛ فذاعت شهرته وعلا نجمه عند العثمانيين وبين عامة المصريين.
– بعد جلاء الحملة الفرنسية، رُقيّ إلى رتبة سرجشمة (لواء)، ثم رشح لمنصب رئيس القيادة العامة وقائد حرس القصر لدى الحاكم العام.
– في 9 يوليو عام 1805، وافق السلطان العثماني على طلب العلماء وقام بتعيين محمد علي واليًا على مصر وعزل خورشيد باشا.
– بدأ في تكوين طبقة من المتعلمين تعليماً عالياً، كما اهتم بأمر البعثات العلمية.
– أنشأ العديد من المدارس كمدرسة المهندسخانة، ومدرسة الألسن، ومدرسة المحاسبة، ومدرسة الفنون والصنائع.
– أنشأ أول مدرسة حربية بأسوان، والمدرسة العسكرية المصرية بباريس.
– أنشأ مجلس الصحة، ومدرسة الطب، ومدرسة الصيدلة ومدرسة الولادة والممرضات، ومدرسة الطب بالقصر العيني، وبدأ التطعيم الإجباري.
– ألغى نظام الالتزام في نظام حيازة الأرض الزراعية، وقام بتوزيعها على الفلاحين.
– انقسمت الصناعات التي أدخلها إلى مصر إلى ثلاثة أقسام: الصناعات التجهيزية، والصناعات التحويلية، والصناعات الحربية.
– أنشأ ديـواناً مستقلًّا للتجـارة ثم أنشأ «ديوان التجارة المصرية والأمور الإفرنكية».
– مهد العديد من الطرق البرية والموانئ مما ساعد على نجاح منظومة التجارة، وقام بإنشاء بنك الإسكندرية.
وفي كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، يحدثنا رفاعة رافع الطهطاوي عن محمد علي باشا، وكيف كان صارماً وجاداً في بناء مصر الحديثة، حتى أنه لم يترك البعثة المصرية الأولي تذهب إلى باريس دون رقابة دقيقة للغاية. وعن ذلك، وبأسلوب عصره، يقول رفاعة الطهطاوي: «جرت عادته – أي محمد علي باشا – من مدة خروجنا من مصر بأنه كان يتفضل علينا ببعثه لنا (فرمانا) كل شهر يحثنا فيه على تحصيل الفنون والصنائع. فمن هذه الفرمانات ما كان يسمى عند العثمانية (إحياء القلوب) ومنها ما كان من باب التوبيخ على ما كان يصله عنا ويبلغه من بعض الناس أو غير ذلك، ولنذكر هنا فرمانا من النوع الأول الذي هو إحياء القلوب وإن كان فيه أيضا شائبة (توبيخ) لنعلم كيف كان محمد علي يحثنا على الثقافة والتعليم والتحصيل.. وهذه صورة ترجمة هذا الفرمان الذي أرسله محمد علي إلينا في باريس: قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم: ينهى إلينا أنه قد وصلنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم, وكانت هذه الجداول المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منها ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئا، وأنتم في مدينة مثل مدينة باريس التي هي منبع العلوم والفنون، فقياساً على قلة شغلكم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا غماً كثيراً، فيا أفندية، ما هذا هو مأمولنا منكم, فكان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئا من أثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كتب فظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون، فإن ظنكم باطل، فعندها وللـه الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون، فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره وعلى العاقل ألا يفوت الفرصة وأن يجني ثمرة تعبه. فبناء على ذلك أنكم غفلتم عن اغتنام هذه الفرصة وتركتم أنفسكم للسفاهة، ولم تتفكروا في المشقة والعذاب الذي يحصل لكم من ذلك، ولم تجتهدوا في كسب نظرنا وتوجهنا إليكم لتتميزوا بين أمثالكم، فإن أردتم أن تكسبوا رضاءنا فكل واحد منكم يذكر ابتداءه وانتهاءه كل شهر، ويبين زيادة على ذلك دراسته في الهندسة والحساب والرسم, وما بقي عليه في خلاص هذه العلوم، ويكتب في كل شهر ما تعلمه في هذا الشهر زيادة على الشهر السابق، وإن قصرتم في الاجتهاد والغيرة فاكتبوا لنا سببه، وهو إما من عدم اعتنائكم أو تشويشكم، وأي تشويش لكم هل هو طبيعي أو عارض، وحاصل الكـلام أنكم تكتبون حالتكم حتى نفهم ما عندكم وهذا مطلبنا منكم، فاقرأوا هذا الأمر مجتمعين وافهموا مقصود هذه الإرادة.. ومتى وصلكم أمرنا هذا فاعملوا بموجبه وتجنبوا وحاشوا عن خلافه».
وتعليقاً على هذا الفرمان الذي أصدره محمد علي باشا، الوالي العثماني على مصر آنذاك، وأرسله إليه وإلى أعضاء البعثة المصرية الأولى في باريس (1826 – 1831)، يقول رفاعة الطهطاوي: «ومن وقت هذا المكتوب صرنا نكتب كل شهر جميع ما قرأناه وما تعلمناه في هذا الشهر، ويكتب المعلمون أسماءهم ونبعثه إلي ولي النعم.. ذلك هو نموذج مما كان من جدية الدولة ممثلة في حاكمها محمد علي في متابعة المبعوثين في باريس وحثهم على العمل والنشاط والتحصيل، وكان من نتائج هذه الجدية العامة الشاملة ظهور القيادات النابغة والمؤثرة علي حياة الوطن والمواطنين».
وعلى حد قول أحد الكتاب، «لعل أجمل ما يثير الانتباه في فرمان محمد علي إلى المبعوثين المصريين هو عبارة (إحياء القلوب) التي تعد أفضل بكثير من عبارة إحياء الذاكرة أو العقل أو العزيمة أو الإرادة أو غير ذلك، فإحياء القلوب أصدق وأقوي من كل ما عداها.. لأن القلوب الحية وحدها هي التي تعمل بنشاط وحماس وإرادة قوية وجدية وحب صادق للهدف الذي يسعى إليه المرء» (سناء البيسي، إحـــياء القلوب، جريدة الأهرام، قضايا وآراء، السبت غرة من ربيع الثاني 1435هــ الموافق الأول من فبراير 2014م، السنة 138، العدد 46443).
رفاعة رافع الطهطاوي
رفاعة رافع الطهطاوي (15 أكتوبر 1801م – 27 مايو 1873م) هو أحد أبرز الشخصيات التي ساهمت في نهضة مصر الحديثة في عهد محمد علي باشا، وترك بصمة لا تُمحى في تاريخ التعليم والثقافة والفكر في مصر بفضل رؤيته التقدمية وعمله الدؤوب في مجالات الترجمة والتعليم، وبحيث غدا اسمه رمزاً من رموز التنوير والإصلاح. ولذلك، يستحق وبكل جدارة أن يطلق عليه لقب «رائد التنوير في العصر الحديث».
وتعتبر سيرة رفاعة الطهطاوي أحد النماذج الملهمة في مجال إحياء القلوب. بيان ذلك أنه، وفي عام 1826م، وكان عمره آنذاك أربعة وعشرون عاماً، سافر إلى فرنسا، بصفته مشرفاً وواعظاً وإماماً للبعثة التعليمية التي كانت تضم أربعين طالباً، كان قد أرسلها محمد علي باشا لدراسة العلوم الأوروبية الحديثة. وهذه الوظيفة تقابل وظيفة «الملحق الثقافي» بلغة الدبلوماسية المعاصرة. ورغم أنه كان مشرفاً وواعظاً وإماماً، ولم يكن أحد المبتعثين للدراسة، إلا أنه لم يكتف بعمله هذا، وإنما انكب على تحصيل العلم والتأليف، بحيث غدا أشهر ممن ذهب معهم قائماً على إمامتهم وتقديم الوعظ الديني لهم. إذ اشتهر رفاعة الطهطاوي بتأليفه العديد من الكتب القيمة، مثل «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، كما أبدع في مجال الترجمة، وأثرى المكتبة العربية بترجمته للعديد من الأعمال الغربية.
ويمثل كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدويناً وترجمةً خمسة أعوام. فأخرج لنا عملاً بديعاً، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
وبعد خمس سنوات من إقامته في فرنسا، عاد رفاعة إلى مصر في عام 1831م، محملاً بحلم كبير وطموح لتطوير التعليم في بلاده بدأ العمل في ترجمة الكتب العلمية الغربية في مدرسة الطب، ثم عمل على تطوير المناهج الدراسية في العلوم الطبيعية، ليؤسس مدرسة الترجمة عام 1835م، التي أصبحت فيما بعد «مدرسة الألسن»، وعُين مديراً لها.
وكان من أبرز مواقفه الوطنية التي تُظهر شجاعته، رفضه نقل الآثار المصرية إلى الخارج، وخاصة مسلة الكرنك التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا. وكان الطهطاوي هو الوحيد الذي أدان هذا الفعل، في وقت كان فيه الرأي العام يخشى من معارضة السلطة. وفي عام 1834، نشر الطهطاوي كتاباً عن رحلته إلى باريس، وفيه انتقد بشدة نقل الآثار المصرية إلى الخارج، معتبراً ذلك عملية سلب ونهب واضحة. وأكد في كتابه أن الأجانب أخذوا هذه الآثار كما يُسلب الذهب والمجوهرات. وكان رفاعة الطهطاوي من أوائل من طالبوا بالحفاظ على الآثار المصرية، حيث كان يدعو إلى جمع كل الآثار التي يتم اكتشافها وتقديمها لمدرسة الألسن، وهو ما كان نواة لإنشاء المتحف المصري لاحقاً، كما شكل تحذيراته من تصدير الآثار ضغوطاً على الحكومة، مما أدى إلى إصدار مرسوم بحماية التراث المصري في عام 1835م، وإنشاء مخزن للآثار في القاهرة. وبموجب هذا المرسوم، غدا محظوراً تصدير الآثار المصرية إلى الخارج.
هكذا، كان دور الواعظ والإمام المستنير، ونتمنى أن يكون دوره كذلك في الحاضر.
عباس محمود العقاد
تعد السيرة الذاتية للكاتب الكبير عباس محمود العقاد أحد النماذج الاستثنائية التي تستحق التوقف عندها. وغني عن البيان أن عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889م – 12 مارس 1964م) أديب ومفكر وصحفي وشاعر مصري، مولود في أسوان، وهو عضو سابق في مجلس النواب، وعضو في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وبالرغم من الظروف القاسية التي مر بها، لم يثنيه ذلك عن السير في طريق النبوغ والإبداع ولم يتوقف إنتاجه الأدبي حتى وفاته؛ حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات، ويعد العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر، وقد أسهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات. وبالإضافة إلى كتاباته الأدبية والشعرية، نجح العقاد في الصحافة، ويرجع ذلك إلى ثقافته الموسوعية. فقد كان يكتب شعراً ونثراً على السواء، وظل معروفاً عنه أنه موسوعي المعرفة، يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع.
وقد اقتصرت دراسة عباس العقاد على المرحلة الابتدائية فقط؛ لعدم توافر المدارس الحديثة في محافظة أسوان، حيث ولد ونشأ هناك، كما أن موارد أسرته المحدودة لم تتمكن من إرساله إلى القاهرة كما يفعل الأعيان. وإذا كان العقاد لم ينل من التعليم حظاً وافراً، لكنه في الوقت نفسه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات، وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب. واعتمد العقاد فقط على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضاً؛ حيث أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للأجانب من السائحين المتوافدين لمحافظتي الأقصر وأسوان، مما مكنه من القراءة والاطلاع على الثقافات البعيدة. وكما كان إصرار العقاد مصدر نبوغه، فإن هذا الإصرار كان سبباً لشقائه أيضاً، فبعدما جاء إلى القاهرة وعمل بالصحافة، أسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري «مدرسة الديوان»، وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق.
وعمل العقاد بمصنع للحرير في مدينة دمياط، وعمل بالسكك الحديدية، والتحق بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نقل إلى محافظة الشرقية. وقد اشتغل العقاد بوظائف حكومية كثيرة في المديريات ومصلحة التلغراف ومصلحة السكة الحديد وديوان الأوقاف. لكنه استقال منها واحدة بعد واحدة. ولما كتب العقاد مقاله الشهير «الاستخدام رق القرن العشرين» سنة 1907م، كان على أهبة الاستعفاء من وظائف الحكومة والاشتغال بالصحافة. فبعد أن مل العقاد العمل الروتيني الحكومي. وبعد أن ترك عمله بمصلحة البرق، اتجه إلى العمل بالصحافة، مستعيناً بثقافته وسعة اطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور. وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه. وتوقفت الصحيفة عن الصدور بعد فترة. وهو ما جعل العقاد يبحث عن عمل يقتات منه. فاضطر إلى إعطاء بعض الدروس ليحصل قوت يومه. ومما قاله العقاد عن تجاربه مع وظائف الحكومة:
– ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين.
– وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره.
– وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة كما كانت يومئذ عملا آليا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير في تلك الأداة.
– كنا نعمل بقسم التكلفات، أي تدوين الملكيات الزراعية أيام فك الزمام، وليس أكثر في هذه الأيام من العقود الواردة من المحاكم ومن الأقاليم فلا طاقة للموظف بإنجاز العمل مرة واحدة فضلا عن إنجازه مرتين.
– وكنت أقرر عددا من العقود أنجزه كل يوم ولا أزيد عليه ولو تراكمت الأوراق على المكتب كالتلال، ومن هذه العقود عقد أذكره تماما.. كان لأمين الشمسي باشا والد السيد علي باشا الشمسي الوزير السابق المعروف، مضت عليه أشهر وهو بانتظار التنفيذ في الموعد الذي قررته لنفسي. وجاء الباشا يسأل عنه فرأيته لأول مرة، ورأيته لا يغضب ولا يلوم حين تبينت له الأعذار التي استوجبت ذلك القرار.
– إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها.. فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين.
مجموعة محمود عمر
باعتباري من المشتغلين بالقانون، لا يفوتني أن أذكر اسم «محمود عمر»، والذي تنسب إليه مجموعة أحكام النقض الشهيرة، المعروفة لدى المشتغلين بالقانون كافة. ومجموعة محمود عمر – لمن لا يعلم – هي المبادئ والأحكام الصادرة عن قضاء النقض المصري في الفترة ما بين عام 1928 إلى 1949م؛ حيث قام بتجميعها وفهرستها المرحوم الأستاذ محمود أحمد عمر، والذي كان يعمل في وظيفة «باشكاتب محكمة النقض»، ويرجع إليه الفضل في حفظ هذا التراث القضائي الزاخر، والذي يمثل أهم الأحكام القضائية، بل إن شئت قل درر محكمة النقض المصرية؛ حيث الفن والابداع القضائي، من حيث الفكر واللغة، ولذلك سميت «مجموعة محمود عمر».
وهكذا، ومن خلال العرض السابق، يبدو جلياً أن هناك بعض الشخصيات التاريخية المصرية التي استطاعت أن تحفر لنفسها مكاناً بارزاً في الذاكرة المصرية، وذلك على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها هذه الشخصيات، ورغم أن بعضهم لم يكن مطلوباً منهم – بحكم وظائفهم – القيام بما قاموا به من إنجازات وإبداعات.
وفي الختام، يقفز إلى ذهني حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: )المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف(. فما أحوجنا إذن إلى أن نطرد ثقافة الضعف من حياتنا، وأن نشحذ الهمم ونتسلح بالعلم والعمل لبناء مصر التي نريدها جميعاً، قوية عزيزة أبية تحتل المكانة اللائقة بها بين الأمم.