إبداع البيئة القانونية في الأزمات.. الوساطة نموذجاً

بقلم الأستاذ/ محمد محمود عبد الحميد المحامي بالاستئناف

تحفل البيئة القانونية بحلول وأفكار، وأعراف وتقاليد، وإن كانت غير مكتوبة، فلا غنى لأي ممارس للقانون عنها وعن معرفتها وعن الإلمام بها وإتقانها، فهي في حكم المهارات، وبعض هذه التقاليد تُعتبر من أصول المهنة وأساسياتها التي تضمن لمهنة المحاماة رسالتها السامية النبيلة.. بل إن البيئة القانونية ما تلبث أن تفرز حلولاً إبداعية كي يُقتبس العمل بها فيتحقق الهدف من حسم منازعة المتنازعين وفض خصومة المتخاصمين.. ومما أبدعته البيئة القانونية، وعرفته الأمم منذ عهد بعيد، هو الوساطة كأسلوب لتسوية المنازعات ورد الحقوق لأصحابها بعيداً عن ساحات القضاء، أو دوواين المظالم، أو رفع الخصومات لولي الأمر، أو قاضي القضاة؛ وبعيداً كذلك عن الاحتكام للحجج ووسائل الإثبات، المقننة حصراً؛ وبعيداً عن تغريم كل طرف رسوماً ومصاريف قد تجاوز توقعات أعتى الخبراء، وقد تضيف إلى مشقة إقتضاء الحق عبئاً نفسياً وفنياً وإقتصادياً، لم يدر بخلد المتقاضي تكبده؛ فأما العبء النفسي فنابع من سعي صاحب الحق لإقتضاء حقه المسلوب أو حماية مصلحته المهددة أو إقتضاء التعويض المطلوب؛ وأما العبء الفني فمرده إلى حاجة صاحب الحق لإثبات حقه بوسائل الإثبات المقررة عملاً بالقاعدة الفقهية المستقرة “البينة على من ادعى”، وإذا ثار الشك حول حجية أو صلاحية دليل معين لإثبات واقعة معينة، كان ذلك إيذاناً بنشوب نزاع آخر، قد تعجز أمامه المحاكم عن الغوص في أغواره بكلمة فصل؛ وأما العبء الاقتصادي فحاصله ما ينفقه صاحب الحق من تكلفة مالية لإقتضاء حقوقه أو لحماية مصالحه أو لاقتضاء ما ينشده من تعويض، وهي مفاضلة لا بد من إجرائها قبل خوض غمار أي دعوى قضائية أو تحكيمية، ومهما كانت التقديرات دقيقة في إعداد تقدير أو توقع مسبق لتلك التكلفة المالية، قد يسفر الواقع عما يجاوز تلك التقديرات؛ ناهيك عما قد يسود أجواء الخصومة – من محصلة تلك الأعباء النفسية والفنية والإقتصادية – من عنت ولدد ونزاعات شخصية يحاول أطرافها ترجمتها إلى نزاعات قانونية، وهو ما قد يلقي على عاتق القضاه والمحامين عبئاً كبيراً وجهداً جهيداً، في الوقت الذي يمكن فيه حسم تلك الخلافات، وتبديد أجواء النزاعات، وفض ما قد يُثار من إشكاليات بأسلوب الوساطة؛ وهنا تكمن أهمية ما تفرزه البيئة القانونية من نظريات وأساليب “مبدعة”؛ والوساطة، إنما تدور في فلك ما يُطلق عليه الفقه القانوني الإنجليزي والأمريكي:

Preventive Law

أي إبداء المشورة القانونية بشكل وافي ودقيق كي يتفادي العميل اللجوء إلى التقاضي أو التحكيم. أو بعبارة أخرى، الاستيثاق مما يجب استيداءه من حقوق العميل، ومما يجب عليه الوفاء من التزامات؛ تمكيناً للعميل ومحاميه من إجراء تفاوض بنّاء وهادف مع الغير تفادياً لنشوب أي خلافات مع ذلك الغير، أو تمكيناً لإطلاق مبادرات تسوية تتسم بالقبول بما يسهم في حسم وتسوية أي خلافات بشكل فعال، بعيداً عن ساحات القضاء أو مراكز التحكيم؛ فالمحامي في هذا الصدد يلعب دورين: دور المستشار القانوني، ودور المفاوض – وهنا تبرز أهمية الوساطة كأسلوب هادف ليس فقط لتسوية المنازعات أو تفاديها، بل لنزع فتيل أي عنت أو لدد؛ ولترسيخ العلاقات بين الأطراف وتعميق روح التحاور والتفاهم والثقة.

والوساطة هي عملية رضائية في مجملها لتسوية المنازعات، يتولاها وسيط أو أكثر، يتباحث مع الخصوم بشأن كافة جوانب المنازعة، ويخلص من واقع تبادل وجهات النظر وإبداء المقترحات بين أطراف المنازعة إلى تبني حل وسيط يحظى بموافقة أطراف المنازعة، فتُحسم المنازعة بإبرام عقد تسوية أو عقد صلح يقوم بصياغته الوسيط في ضوء ما أقرّه ووافق عليه أطراف المنازعة، ثم يقوم الأطراف والوسيط بالتوقيع على ذلك العقد، إقراراً من الأطراف وتعهداً منهم بتنفيذ ما انتهى إليه عقد التسوية أو عقد الصلح من بنود.

أما ما تحققه الوساطة من مزايا، كأسلوب مرن وموثوق في تسوية المنازعات، فالوساطة من ناحية، تحسم كافة أواصر النزاع، الذي قد يتشعب بين أطرافه، وقد يقع في إختصاص أكثر من محكمة ولائياً أو نوعياً أو قيمياً أو محلياً.. ومن ناحية أخرى، لا يتقيد أطراف المنازعة عند لجوئهم إلى الوساطة بوسائل الإثبات المقررة قانوناً، كما أنه من غير المتصور دحض أي إثبات أو مستند مقدم من أحد أطراف المنازعة لمجرد أن ذلك الإثبات أو المستند لم يُفرغ في الشكل المقرر قانوناً، بل إن مثل هذه المنازعة في حجية الدليل المبدى من أحد الأطراف – هي بالفعل منازعة غير منتجة في عملية الوساطة – مالم يصحبها مناقشة موضوعية لذلك الدليل. ومن ناحية ثالثة، فالوساطة قد تكون الحل الأمثل في حال رغبة أطراف النزاع في استمرار تعاملاتهم وعلاقاتهم سواء كانت علاقات شخصية أو تجارية أو ذات طابع اقتصادي جوهري بالنسبة لهم؛ ومن ناحية رابعة، فالوساطة تكفل تسوية المنازعات في قالب سِرّي، وهي ميزة جوهرية لهؤلاء الراغبين في النأي بخلافاتهم عن العلانية التي تُعد الأصل في عقد جلسات المحاكم وإبداء المرافعات وفق نص المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري رقم 13 لسنة 1968؛ ذلك أن المشرع قرر علانية جلسات المحاكم وعلانية سماع مرافعات الخصوم، ولكنه خرج عن ذلك الأصل العام متى رأت المحكمة المختصة أن تقوم بنظر الدعوى وسماع مرافعات الخصوم بغير علانية، سواء قررت المحكمة ذلك من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب من أحد الخصوم؛ ولكن ذلك – أي عقد الجلسات بدون علانية – مشروط باستهداف الحفاظ على النظام العام أو مراعاة الآداب أو حرمة الأسرة؛ ولا يخفى على القارئ الكريم أن ذلك الاستثناء المقرر للحفاظ على النظام العام أو مراعاة الآداب أو حرمة الأسرة، هو استثناء ضيق، لا يُتوسع فيه أو يُقاس عليه؛ ولا يشمل الحفاظ على الأسرار التجارية أو التعاملات الاقتصادية للمتنازعين أمام ساحات القضاء؛ مالم تكن تلك الأسرار التجارية أو التعاملات الاقتصادية تمس النظام العام، كأن تتعلق تلك الأسرار التجارية بجهات أو كيانات أو مشروعات استراتيجية تساهم فيها الدولة، أو تكون تلك الأسرار التجارية متصلة بمعلومات تكنولوجية ذات حساسية معينة، أو تكون متصلة بمشروعات ذات طبيعة خدمية أو ذات أهمية اقتصادية حيوية كأن تتعلق بموارد وثروات البلاد، أو يكون من شأن علانية المنازعة الإضرار بموقف شركة ما والإضرار كذلك بموقف الشركات التابعة أو الحليفة لها في سوق الأوراق المالية، بما قد ينعكس بالسلب على أداء الأسهم المصرية بشكل عام والمساس باستثمارات المستثمرين في سوق الأوراق المالية، ولا شك أن الحفاظ على ثبات واستقرار الإقتصاد القومي إنما يصب في صالح النظام العام، ذلك أن إقتصاد الأمم هو حجر الزاوية في تطورها وإزدهارها.. الجدير بالذكر أن المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، سالفة الإشارة، إنما تمنح المحكمة سلطة تقديرية في عقد الجلسات بدون علانية، فالمحكمة غير ملزمة بإجابة الخصوم إلى ما يطلبون، وتقدير مدى اتصال المنازعة بالنظام العام إنما يخضع لمطلق تقدير المحكمة المختصة بنظر الدعوى.

ومن هنا، لجأت بعض الكيانات الاقتصادية إلى التحكيم لتسوية وحسم المنازعات بعيداً عن ساحات القضاء، وللحفاظ على سرية التعاملات التجارية، ورغم أن قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 لم ينص صراحة على سرية إجراءات التحكيم، فإن المادة (44/2) من قانون التحكيم قد نصت على أنه “لا يجوز نشر حكم التحكيم أو نشر أجزاء منه إلا بموافقة طرفي التحكيم.” وهذا النص لا ينبغي تفسيره تفسيراً ضيقاً مقتصراً على حكم التحكيم المنهي للخصومة وحسب، بل يتسع ليشمل أحكام التحكيم التمهيدية أو الوقتية أو تلك المنهية للخصومة.

كما أن الفقه يرى أن سرية إجراءات التحكيم إنما تتفق مع التنظيم القانوني للتحكيم في القانون المصري، ويتفق أيضاً مع آلية مباشرة التحكيم من الناحية العملية، إذ لا يُسمح بحضور جلسة التحكيم إلا لأعضاء هيئة التحكيم وأطراف المنازعة والمحامين فقط.

[في التوكيد على سرية التحكيم، يرى الأستاذ الدكتور/ محمود سمير الشرقاوي أن تلك السرية مصونة بل وتقتضيها فلسفة قانون التحكيم، وإن لم ينص عليها ذلك القانون صراحة؛ انظر مؤلفه: التحكيم التجاري الداخلي والدولي دراسة قانونية مقارنة، الأستاذ الدكتور/ محمود سمير الشرقاوي، دار النهضة العربية، طبعة 2016، الصفحات أرقام (269، 282، 283، 433)]

على أي حال فإن سرية حكم التحكيم وإجراءاته مهددة بالإفشاء والعلانية إذا أقام أحد أطراف القضية التحكيمية دعوى بإبطال حكم التحكيم وفقاً لنص المادتين (53)، (54) من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994، فدعوى البطلان تتداولها المحاكم المختصة وفقاً لنص المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، بما يعيدنا إلى الأصل العام في نظر الدعاوى أمام المحاكم – دعوى بطلان حكم التحكيم في هذه الحالة – وهي العلانية.

***

إن الظروف الحالية التي أسفر عنها تفشي وباء فيروس كورونا المستجد واجتياحه العالم أجمع منذ العام 2020 وحتى الآن، قد ألقت بتحديات قانونية وتكنولوجية نحو استحداث وسائل وأساليب أكثر فعالية؛ ولقد بذل القائمون على المراكز التحكيمية – وحسناً فعلوا – جهداً موفوراً في تنظيم التحكيم إما عن بعد بالوسائل التكنولوجية أو بما يوفر إتباع الإجراءات الاحترازية والوقائية؛ كما أن مصر شهدت تحولاً في عقد جلسات بعض المحاكم باستخدام تقنيات شهدتها الساحات القضائية لأول مرة. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة قيام محكمة العدل الدولية بنظر إحدى المنازعات المتعلقة بمجال الطيران المدني الدولي، وذلك من خلال إتباع إجراءات وقائية وتدابير احترازية صارمة.

وتجدر الإشارة، وأنه وبحسب الإحصائيات التي نشرها مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، فإن عدد القضايا التحكيمية المقامة في عام 2020 قد شهد إنخفاضاً ملحوظاً عن الأعوام السابقة، حيث بلغ عدد القضايا التحكيمية المقيدة في عام 2020 حوالي 67 قضية تحكيمية، في حين بلغت القضايا التحكيمية المقيدة في عام 2019 حوالي 82 قضية تحكيمية؛ بما يكشف بجلاء عن إنخفاض عدد القضايا التحكيمية لدى مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في عام واحد وهو 2020 بما يمثل 18% – وذلك وإن دل، فإنما يدل على حرص بعض الكيانات الإقتصادية على التماس حلول قانونية أكثر إبداعاً وأكثر سرعة في حسم المنازعات.

***

وكما أشرنا في افتتاحية هذا المقال، فإن البيئة القانونية تذخر بحلول لا بد من استدعائها وتهيئة البيئة التشريعية والتنفيذية المناسبة كي تؤتي بثمارها ليس فقط في أوقات الأزمات، بل في كل وقت يمكن فيه استخدام تلك الحلول واستثمارها.

***

إن الوساطة ليست آلية مستحدثة، بل هي جزء من التراث القانوني والثقافي للأمم، فكم من منازعة قديماً أو حديثاً إنما حُسمت رضائياً بالوساطة دون أي تدخل قضائي أو تحكيمي، ودون صدور أحكام ملزمة، أو مباشرة إجراءات التنفيذ الجبري في مواجهة أحد أطراف المنازعة.

كذلك فإن الوساطة ليست حلاً قانونياً اقتصادياً من شأنه توفر الوقت والجهد وحسب، بل يمكن للوساطة حل مسائل قانونية لا يمكن للقضاء أو التحكيم حسمها، كالالتزامات المستقبلية، أو استصدار تعهد أو إقرار من أحد أطراف المنازعة لصالح الطرف الآخر أو بالامتناع عن عمل ما.. فيمكن في المنازعات الخاصة بعقود إيجار واستغلال العقارات التوصل عن طريق الوساطة إلى إتفاق ليس من شأنه فقط زيادة أو تخفيض مقابل الاستغلال أو الإيجار، وإنما قد يشمل توفير خدمات وحلول تسويقية ولوجيستية جديدة تنعكس بالإيجاب على الأطراف ككل، بحيث لا يقتصر عقد الإيجار أو الاستغلال على الحيز العقاري المؤجر أو المستغل وما يتمتع به من مرافق بالمفهوم التقليدي، وإنما يتسع أيضاً إلى ما قد يلحق به من خدمات ومزايا أفرزتها الوساطة والتي ترجمت حاجة المتعاقدين إلى تطوير تعاقدهم التقليدي – والذين ضاقوا به ذرعاً حتى صار مسرحاً لمنازعاتهم – إلى تعاقد آخر غير نمطي.

وعن طريق الوساطة، يمكن للشركات المتنافسة على تقديم سلعة أو خدمة معينة التوصل إلى الاتفاق حول التزامهم بممارسات تجارية وتسويقية معينة تكفل حرية وعدالة المنافسة وعدم وجود أية ممارسات احتكارية؛ وفي المنازعات التكنولوجية يمكن الاتفاق بين أطراف المنازعة – بموجب الوساطة – على استكمال التزامات كلا الطرفين سواء بالترخيص باستخدام التكنولوجيا أو بتطوير تلك التكنولوجيا مع تعديل الإطار الزمني والمقابل المالي لتنفيذ تلك الالتزامات؛ ويمكن في منازعات تشييد العقارات التوصل من خلال الوساطة إلى إصدار وصرف المستخلصات المالية المستحقة والمُعَلَّقَة، على أن يتم صرفها للمقاول أو المهندس الاستشاري في مدة زمنية يتم خلالها استيفاء التحفظات والملاحظات المتعلقة بالعمل، أو يتم الاتفاق على تنازل رب العمل عن جزء من التحفظات مع استيفاء الباقي خلال أجل معين نظير الحصول على دفعات مالية معينة.

كما تلعب الوساطة دوراً بارزاً في تحمل الخسائر بِنِسَب معينة في عقود النقل البحري نتيجة حوادث تدخل في مقهوم القوة القاهرة، ومن تلك الخسائر ما تكبدته بعض شركات النقل البحري مؤخراً من زيادة تكلفة استهلاك الوقود وزيادة تكلفة تشغيل السفن المبحرة على إثر صدور قرارات مفاجئة من العديد من دول العالم بغلق بعض موانئها أو تنظيم ساعات العمل بتلك الموانئ على نحو أقل من المعتاد، بما ترتب عليه تأخير في تفريغ حمولة السفن وتأخير توصيل الشحنات عن المواعيد المتفق عليها؛ وفي العديد من تلك المناسبات لعبت الوساطة دوراً محورياً لجبر وتقليص الخسائر بين شركات النقل البحري وشركات التأمين التابعة لها والشركات المالكة لتلك السفن؛ دونما حاجة لأن يلجأ أي طرف لمقاضاة الآخر.

وفي كثير من الأحيان، يُعتبر عقد التسوية الناتج عن الوساطة بمثابة تعديل لعقد الالتزام الأصلي.. وهذه النتيجة إنما تصنعها إرادة الأطراف بالتعاون مع الوسيط، فالوسيط وحده لا يصنعها، ولا يكفل تنفيذها، فحقيقة الأمر أن الوسيط يعمل مع أطراف النزاع جنباً إلى جنب، فإذا غاب اتفاق الأطراف، لا يمكن للقضاء أو التحكيم أن يُعَدِّل التزام الأطراف أو ينقص منه أو يزيد فيه – إلا في الأحوال التي قررها القانون المدني على سبيل الاستثناء في المواد (129/1)، (147/2)، (148/2) – لخروج هذه الأمور عن ولاية القضاء والتحكيم إعمالاً لمبدأ سلطان الإرادة في إنشاء وتعديل الالتزامات.

ورغم الدور البارز الذي تلعبه الوساطة، وما تسفر عنه من نتائج إيجابية ملموسة، فإن المشرع المصري لم يضع حتى الآن قالب تشريعي يتفق مع فلسفة الوساطة بما يمكن معه للوساطة أن يكون لها دور أكثر إيجابية على الساحة القانونية، وإن وجود مثل هذا القالب التشريعي، من شأنه إضفاء فعالية ومصداقية أكثر لدور الوساطة، كما أن من شأنه إضفاء قوة قانونية إلزامية لعقد التسوية أو الصلح الذي تسفر عنه الوساطة.

***

تجدر الإشارة، بأن المشرع المصري قد تبنى فكرة التسوية الودية للمنازعات في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من موضع، ورتب على هذه التسوية الودية – حال إبرامها وإقرارها من أطراف المنازعة – إنهاء الخصومة وإضفاء قوة السند التنفيذي على عقد الصلح أو التسوية؛ فتضمنت المادة (103) من قانون المرافعات، والمادة (41) من قانون التحكيم، منح الأطراف الخيار بأن يطلبوا من المحكمة أو هيئة التحكيم إثبات ما اتفقوا عليه من تسوية أو صلح، وحينئذ قرر القانون إضفاء قوة السند التنفيذي على ذلك الاتفاق الذي تضمن التسوية أو الصلح. هذان النَصَّان يكشفان عن رغبة المشرع في تشجيع المتقاضين والمتحاكمين بأن يلعبوا دوراً أكثر إيجابية؛ فإذا كان بمقدور أطراف المنازعة حسم تلك المنازعة وتسويتها ووأد الخصومة.. فلمَ لا؟

***

وإذا كان أطراف المنازعة قد استبدت بهم مشاعر الخصومة، فإن دور الوسيط يصبح ضرورياً ومُلِحّاً لوضع الأمور في نصابها بهدوء ورَويِّة وموضوعية، التماساً لحل موضوعي للنزاع القائم بين الأطراف؛ ولا تثريب في القول بأن الوسيط يضع بعين الاعتبار المصالح الطموحة التي يستهدفها كل طرف، والتي ما إن تحققت، كان أطراف المنازعة حريصين على إنجاح الوساطة وإنفاذ بنود عقد التسوية.

***

وعلى صعيد آخر، فإن المشرع في القانون رقم 7 لسنة 2000 قد استلزم من المتقاضين – سواءً كانوا أفراداً أو أشخاص اعتبارية خاصة – أن يلجأوا إلى لجان “التوفيق في المنازعات” قبيل إقامة دعواهم ضد الجهات الإدارية وأشخاص القانون العام أمام مجلس الدولة. ولا شك أن حكمة المشرع كانت واضحة في سَنّ ذلك التشريع الذي استهدف حث من يرغب في مقاضاة أشخاص القانون العام على تسوية منازعاتهم مع تلك الجهات بأسلوب “التوفيق”، الذي قد يُجَنّب المتقاضين والجهات الإدارية مشقة التقاضي ونفقاته وإجراءاته. إن المستقرىء للتشريع رقم 7 لسنة 2000، وتعديله بالقانون رقم 6 لسنة 2017، يدرك الحكمة التشريعية التي سعت إلى ترجمة فلسفة الوساطة في قالب فريد من نوعه، بحيث عقد المشرع للقاضي أو القضاة أعضاء لجنة التوفيق في المنازعات صلاحيات مباشرة في التباحث مع أطراف المنازعة لإبرام التسوية الودية وإقرارها وإنفاذها، فتتحقق مصالح المتقاضين ومصالح الجهة الإدارية بتسوية النزاع بشكل مباشر دون ثمة حاجة إلى عرض النزاع على قضاء مجلس الدولة. غير أن الحكمة التشريعية والغاية النبيلة التي استهدفها المشرع لم تتحقق، حيث أن المشاهد هو إمتناع ممثلو الجهات الإدارية وأشخاص القانون العام عن تسوية المنازعات من خلال لجنة التوفيق في المنازعات؛ حتى وإن خلت المنازعة من أي نزاع حقيقي يُذكر كالدعاوى التي يقيمها الموظفين العمومين للمطالبة بالمقابل النقدي المستحق عن رصيد إجازاتهم التي لم يحصلوا عليها طوال مدة خدمتهم، فمثل هذه الدعاوى لا يجب أن تزدحم بها المحاكم الإدارية سيما وأن الجهات الإدارية بمقدورها حسم تلك المطالبات دون أن يضطر صاحب الشأن للجوء إلى القضاء، صحيح أن القانون رقم 6 لسنة 2017 أضفى القوة الإلزامية على قرارات لجان التوفيق في المنازعات فيما يخص المستحقات المالية لموظفي الجهات الإدارية وأشخاص القانون العام، ولكن بمقدور الجهة الإدارية الطعن على ذلك القرار، وإطالة أمد النزاع لأعوام رغم أن جوهر الأمر يتحصل في مطالبة كفلها القانون تخلو من أي نزاع حقيقي.

ويمكننا أن نقول أن قيام الجهة الإدارية، بشكل إيجابي، بحسم وتسوية تلك المطالبات من شأنه إزاحة آلاف القضايا عن كاهل القضاء. وهاهو القانون رقم 7 لسنة 2000 قد أصبح سيفاً مُسَلّطاً على رقاب أي متقاضي إذا ما لجأ إلى قضاء مجلس الدولة دون أن يعرض دعواه على لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، ليكون مصير دعواه هو عدم القبول بنص القانون (م11)، وهو أمر قد تدفع به الجهة الإدارية وقد تثيره المحكمة الإدارية المختصة من تلقاء نفسها.. وبذا صرنا أمام نتيجة يأباها المنطق القانوني والعقلي السليم، فإذا ما لجأ المتقاضي إلى لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، لم يحصل على أي نتيجة نافذة، لامتناع الجهات الإدارية عن بذل أي محاولات للتسوية، وإذا ما لجأ المتقاضي إلى مجلس الدولة مباشرة، قُضي بعدم قبول دعواه لعدم عرضها على لجنة التوفيق في المنازعات، التي لم يصبح لها دور إيجابي يُذكر بسبب تعنت الجهات الإدارية، وأصبح على عاتق المتقاضي ومحاميه تحضير ملف الدعوى مرتين: مرة أمام لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، ومرة أمام قضاء مجلس الدولة، وهنا نرى أن الغاية التي استهدفها المشرع كي تلعب لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية دوراً توفيقياً وسيطاً لم تتحقق. وهذا الوضع يجدر بالمشرع تداركه، ليكون لزاماً على عاتق الجهة الإدارية مناقشة الدعوى بكافة جوانبها بشكل موضوعي والاستجابة بشكل أكثر جدية لمساعي الوساطة والتوفيق التي تباشرها لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، تحقيقاً للحكمة التي قصدها المشرع من وضع القانون رقم 7 لسنة 2000؛ فالدولة – ممثلة بأجهزتها المختلفة – ينبغي عند مخاصمتها قضائياً أن تكون خصماً شريفاً تستهدف الصالح العام، صالح المواطنين وصالح الدولة والوطن ككل، ولا ينبغي على الجهات الإدارية أن تجنح باستخدام سلطاتها وصلاحياتها إلى ما يُعد إساءة أو “إفراطاً” في استعمال السلطة؛ إذ لا منفعة تجنيها الدولة من تكدس القضايا أمام مجلس الدولة وعرقلة مصالح المواطنين، لا لسبب وجيه، إلا تعنت جهات الإدارة عما كان يجدر بها تسويته وحسمه.

وعلى صعيد ثالث وأخير، فإن المشرع المصري قد حاول على استحياء الأخذ بالوساطة لدى المحاكم الاقتصادية عبر استحداثه لما سُمي بـنظام “قاضي التحضير” أو “هيئة التحضير” وذلك بموجب المادة (8) من القانون رقم 120 لسنة 2008، حيث منح المشرع “هيئة التحضير” صلاحية بذل محاولات الصلح، وعرضه على الخصوم، فإذا ما تم الصلح، يتم تطبيق أحكام المادة (103) من قانون المرافعات المدنية والتجارية. وقد حاول المشرع بموجب القانون رقم 146 لسنة 2019 استحداث بعض الضمانات والضوابط لمباشرة عملية الصلح أو الوساطة؛ من أهم تلك الضوابط على الإطلاق هي سرية مناقشات الصلح والوساطة، وسرية ما يتم تبادله من وثائق وأدلة تحت مظلة الوساطة، فإذا ما انتهت عملية الوساطة دون تسوية، لم يجز لأحد من الخصوم الاحتجاج بما دار أو تم إبدائه أمام “قاضي التحضير” أو “هيئة التحضير” من إفادات أو مستندات؛ ولكن المشرع فاته أمرين: الأول، أن إجبار الخصوم على الوساطة قبل لجوئهم إلى المحاكم الإقتصادية، إنما يُفَوّت المقصد من الوساطة ويتعارض مع فلسفة الوساطة التي يجب أن تتسم بالرضائية؛ والأمر الثاني، أن المشرع لم يضع جزاءاً على انتهاك السرية. ولهذا، أصبح من النادر قيام أطراف المنازعة أو ممثلوهم بتبادل مسودات لعقود تسوية أو عقود صلح أمام “قاضي التحضير” أو “هيئة التحضير” بالمحاكم الاقتصادية؛ وهو ما حدا بلفيف من الفقهاء والقضاة أن يفصحوا بأن:

“نظام قاضي التحضير في صورة هيئة التحضير لن يؤدي فقط إلى مزيدٍ من تعطيل الفصل في الدعاوى، بل إلى تعقيد الإجراءات وإضاعة وقت القضاه وجهدهم دون فائدة.”

[مُشار إليه في “قانون المحاكم الإقتصادية القواعد الخاصة للإختصاص والإجراءات” للأستاذ الدكتور/ فتحي والي، كتاب الأهرام الإقتصادي، العدد 254، الأول من نوفمبر 2008، صفحة رقم (20)]

***

ومن جماع ما سبق، نجد أنه لابد للمشرع المصري أن يقوم بسنّ قانون للوساطة، ويضع قالب تشريعي تتم الوساطة في إطاره، ويحمي عملية الوساطة من أي سلوك قد يهددها أو يُعَرّض المعلومات المتداولة للإفشاء، ويحدد ما يجب على أطراف النزاع والوسيط إتخاذه لاعتماد اتفاق الوساطة وتوثيقه وإضفاء قوة السند التنفيذي عليه، عملاً بالصلح الذي ينتهي إليه الأطراف أمام القضاء وفق المادة (103) من قانون المرافعات، أو أمام هيئة التحكيم وفق المادة (41) من قانون التحكيم؛ وفي هذا الصدد نجد أن البرلمان المصري كان بصدد مناقشة “مشروع قانون تنظيم إجراءات الوساطة الاتفاقية”، وحسناً فعل بالتمهل في إصداره، لأن الصيغة المقترحة كان يغلب عليها الصفة الإجرائية وطابع الخصومة والتخاصم، وهو ما يجب تلافيه عند تقنين الوساطة الذي ينبغي أن يكون قانون موضوعي وإجرائي معاً، أخذاً بعين الاعتبار أن اللجوء للوساطة إنما يتسهدف في المقام الأول نزع أجواء التشاحن بين أطراف المنازعة، التماساً لحل النزاع. إن البين من مشروع القانون هو استحداثه لنوعين من الوساطة أحدهما وساطة “اتفاقية” تتم مباشرته من وسيط “خاص” يتم الاتفاق عليه من الأطراف سواء دون إقامة أي نزاع منهم أمام القضاء، أو سواء قبل أو إثناء إقامة النزاع أمام جهات القضاء.. ووساطة “قضائية”، تتم لدى قاضي بإدارة الوساطة في كل محكمة ابتدائية أو اقتصادية بحيث يُحال إليه – تلقائياً وإجبارياً – أي نزاع قضائي متى زادت قيمته على مائة ألف جنيه أو كان النزاع غير مقدر القيمة.

ومن الإنصاف القول، أن ملامح المشروع النهائية لم تتضح بعد سيما مع إرجاء إصداره، ولكن يجدر القول بأن الوساطة “القضائية” تعد إفتئاتاً على إرداة الخصوم الراغبين في الحصول على حكم قضائي يقرر لهم حقاً أو تعويضاً أو يمنع عنهم ضرراً أو خطراً، فلا يجوز فرض عملية الوساطة على أحد أطراف المنازعة، فالوساطة – كما أسلفنا – رضائية، ولا يجوز نزع تلك الصفة عنها تحت أي مسمى أو غاية، ولكي تحقق الوساطة “القضائية” غايتها، يجب تخيير المتقاضين أثناء رفع الدعوى عن مدى قبولهم لإحالة دعواهم للوساطة “القضائية” من عدمه، فإذا أفصح أطراف النزاع أو أحدهم عن عدم رغبته في سلوك طريق الوساطة “القضائية”، فلا يجب أن تُحال الدعوى تلقائياً إلى إدارة الوساطة، بل يجب أن تسلك الدعوى مسارها الطبيعي والقانوني أمام القضاء.

أيضاً من الملاحظ أن المشروع أمعن في التوكيد على حيدة الوسيط واستقلاليته عن أطراف المنازعة إلى الحد الذي قرر معه عقوبات وغرامات مالية في حال عدم حيادية الوسيط أو استقلاليته؛ وهنا نرى أن المشرع قد تداخل عليه الأمر بين الوسيط وبين القاضي؛ فالقاضي لا يفترض به أن يكون على علم مسبق بموضوع المنازعة، ولا يجب أن يكون له أي صلة بالخصوم، بحيث يكون مستقلاً ومحايداً بشكل مطلق وكامل لا تشوبه شائبة؛ أما الوسيط، فحيادته واستقلاليته هما نسبيين، فإذا ما وافق أطراف المنازعة على تعيين وسيط ذو صلة بهم، واطمأنوا إلى دراية الوسيط بأطراف وتفاصيل المنازعة، فإن الوسيط في هذه الحالة يغدو أقدر من غيره على ممارسة “قوى ناعمة” تستهدف إجتثاث المنازعة من جذورها، وإستبدال أجواء المنازعة بأخرى تسودها روح الثقة والتفاهم، وهو أمر لا ينبغي حرمان أطراف المنازعة منه، متى رغبوا فيه وارتضوه.

كما أن الوسيط يعمل مع أطراف المنازعة جنباً إلى جنب لتسوية النزاع بشكل أكثر مرونة، ودون التقيد بقوالب إجرائية معينة، فإذا كان الوسيط ذو علاقة طيبة بالأطراف، ويحظى بقبولهم، كان ذلك سبيله في إرساء روح التفاهم التي تستهدف تسوية النزاع القائم؛ وهذه العلاقة الطيبة قد تنبع من علاقة شخصية أو زمالة أو علاقة عمل أو علاقة تجارية أو شراكة إقتصادية ما.. إن حيادية الوسيط واستقلاليته عن أطراف النزاع أو عن أحدهما لا يجب أن تكون شرطاً لازماً و”مطلقاً” لإجراء الوساطة، ولكن نزاهة الوسيط يجب أن تتوافر على الدوام… وفي نهاية المطاف لا يستطيع الوسيط التوصل إلى حل ما إلا بموافقة أطراف المنازعة أنفسهم.

ومما نقترحه في هذا الصدد، أن يقوم أطراف المنازعة أو ممثليهم وبحضور الوسيط مجتمعين بإثبات نسخة من اتفاق التسوية الذي قد يتوصلوا إليه، وذلك لدى إدارة الوساطة التي سيتم إنشائها لدى كل محكمة ابتدائية أو اقتصادية كي يكون لذلك الاتفاق قوة السند التنفيذي؛ وألا يُكتفى فقط بحضور أحد الأطراف لدى إدارة الوساطة.

وفي الختام، فلاشك بأننا سوف نترقب ببالغ الصبر الصيغة النهائية لمشروع قانون الوساطة، وحينئذ سيكون لكل حادث حديث.. وحتى ذلك الحين، فإننا ندعو المشرع المصري ليس فقط إلى إضفاء قدر من المرونة على تشريع الوساطة، بل إلى ترسيخ وتعميق ثقافة الوساطة بما يتفق مع فلسفة الوساطة كأسلوب رضائي من أساليب تسوية المنازعات.

***

قائمة المراجع:

• Garner Brayan A., Black’s Law Dictionary, (10th edn, Thomson Reuters 2014) 1380

• The Chartered Institute of Arbitrators ‘What Is Meant by Neutrality in Mediation? (16 January 2019) <https://www.ciarb.org/news/what-is-meant-by-neutrality-in-mediation/> accessed 3 June 2021

• Cairo Regional Centre for International Commercial Arbitration ‘CRCICA 2020 Annual Caseload Report’ (31 December 2020) <http://crcica.org/news/2020/12/31/caseload-2020/> accessed 3 June 2020.

• التحكيم التجاري الداخلي والدولي دراسة قانونية مقارنة، الأستاذ الدكتور/ محمود سمير الشرقاوي، دار النهضة العربية، طبعة 2016، الصفحات أرقام (269، 282، 283، 433)

• قانون المحاكم الإقتصادية القواعد الخاصة للإختصاص والإجراءات، الأستاذ الدكتور/ فتحي والي، كتاب الأهرام الإقتصادي، العدد 254، الأول من نوفمبر 2008، صفحة رقم (20).

محمد محمود عبد الحميد

M_AbdulHamid@outlook.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى