أين هؤلاء من أخلاق المصري القديم؟

بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

صُدم الشعور العام في مصر مؤخراً ببعض الأخبار المنشورة في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي عن قيام بعض الأشخاص من معدومي الإحساس والضمير بالتنمر والسخرية والاعتداء على أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث بلغ بهم التدني الأخلاقي إلى نشر فعلتهم الدنيئة على وسائل التواصل الاجتماعي.

فمع بداية العام الميلادي الجديد، تداول بعض الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لأحد ذوي الاحتياجات الخاصة معلقاً بجدار عقار تحت الإنشاء، للسخرية منه والتنمر عليه. وباستجواب الجناة بواسطة النيابة العامة، أقرا بأنهما استوقفا المجني عليه مصطحبين إياه إلى عقار تحت الإنشاء، ليسخرا منه بتعليقه من ملابسه على مسمار بجدار العقار وتصويره على تلك الحالة، حيث تعديا عليه بالضرب ونشر صوره بقصد المزاح معه على حد قولهما.

كما أقرا بأن أحدهما نشر الصور المتداولة بمواقع التواصل الاجتماعي لهذا الغرض.

ومنذ أكثر من عام، وبالتحديد في العاشر من سبتمبر 2019م، انتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي مجسداً اعتداء مجموعة من الشباب على أحد الأشخاص من قصار القامة، بواسطة كلب شرس مدرب يتلقى الأوامر من مالكه الذي يبدو في الفيديو واقفاً هو وأصدقاؤه مشاهدين اعتداء الكلب على الشاب وضاحكين بشدة، سخريةً من المجني عليه. وقد تم تصوير مقطع الفيديو بواسطة هاتف محمول لأحد الحضور في منطقة زراعية، وظهر الضحية وهو يقاوم الكلب الذي اعتدى عليه بضراوة بمساعدة صاحبه وسط صرخات المعتدى عليه.

 

وفي السينما، اشتهر عدد من الأقزام ولمعوا على الشاشة ولكن دائماً ما تقدمهم السينما بشكل ملئ بالسخرية، فلا نري فلم سينمائي يقوم أحد الأقزام بدور البطولة فيه أو يناقش قضايا هذه الفئة من فئات المجتمع، ولكن دائماً نري أن تواجدهم في الأفلام يصطحب معه الفكاهة والضحك، واضطر هؤلاء الأقزام أن يأخذون من السخرية والتسلية سلاحاً لهم لكسب لقمة العيش. وجاء أول أدوارهم في العام 1957م بفيلم «ابن حميدو»، والذي لعب دور البطولة فيه الفنانين الراحلين أسماعيل ياسين وأحمد رمزي، ويعتبر من أهم الأفلام التي ظهر فيها ممثل قزم يؤدي دوراً صغيراً على الشاشة، وكان يمثل دور مساعد «الباز أفندي» الذي قام بدوره الفنان الكبير توفيق الدقن.

وكان دور القزم في الفيلم يدور دائماً حول الفكاهة والسخرية، حيث عمد المخرج إلى تقديم القزم في إطار الفكاهة واعتباره مادة للضحك، دون أن يكون هدفه إلقاء الضوء على قضاياهم أو أوجه معاناتهم أو توجيه رسالة إلى المجتمع بشأن هذه القضايا وتلك المعاناة التي يواجهها الأقزام، مما يسبب ألم نفسي شديد لهم.

 

والواقع أن هذه الممارسات المسيئة للأقزام ليست قاصرة على المجتمع المصري. ففي الجمهورية الفرنسية، على سبيل المثال، وحتى عهد قريب، وتحديداً حتى بداية التسعينات من القرن الماضي، كان مشهد «قذف الأقزام» (Lancer des nains) معتاداً في بعض الفعاليات والأندية الليلية. ويرجع الفضل في إلغاء هذا السلوك غير الأخلاقي إلى عمدة مدينة (Morsang-sur-Orge) الفرنسية، والذي أصدر قراراً في العام 1991م بإلغاء سهرة قذف الأقزام في أحد الأندية الليلية. وبناء على الدعوى المقامة ضد هذا القرار، وفي السابع والعشرين من أكتوبر 1995م، أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكمه بتأييد قرار العمدة المناهض لقذف الأقزام، مؤكداً أن قيام ببعض الأفراد بتقاذف الأقزام فيما بينهم يشكل اعتداءً على الكرامة الإنسانية، ويخل بالنظام العام، ولو كان ذلك بموافقة القزم نفسه.

وبالطعن في هذا الحكم أمام المفوضية الأوربية لحقوق الإنسان ثم أمام لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف، تم التأكيد على أن هذا المنع يستند إلى معايير موضوعية ومقبولة.

 

وحسناً فعل مجلس الدولة الفرنسي بتأييد قرار العمدة بإلغاء إحدى السهرات الليلية التي تقوم على قذف الأقزام. ومن جانبي، أرى أن الدعوة واجبة إلى وسائل الإعلام بالامتناع عن نشر الصور والفيديوهات المسيئة الخادشة للآداب العامة من خلال الإساءة إلى الأقزام. وإذا اقتضى الأمر، يمكن نشر رسم كروكي للحادث، دون نشر صورة المجني عليه نفسه، وذلك على نحو ما هو متبع في وسائل الإعلام الأمريكية عند نشر أخبار المحاكمات الجنائية. كذلك، نرى من الضروري حظر استخدام قصار القامة في الأعمال السينمائية كوسيلة للتندر والسخرية.

 

أما عن الجرائم سالفة الذكر التي شهدها المجتمع المصري مؤخراً، والتي تتضمن الاعتداء على الأقزام أو الإساءة إليهم، وتفاعلاً معها، لن أردد عبارة الراحل الكبير جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟»، ولكن أقول «أين هؤلاء من أخلاق المصريين؟». إن هذه النماذج السيئة لا تمثل الشخصية المصرية، ولا يجوز أن ننظر إلى هذه الحوادث الفردية كما لو كانت تعبيراً عن ظواهر عامة، لاسيما وأن رد الفعل المجتمعي تجاه هذه الحوادث جاء مستنكراً لها مطالباً بضرورة إنزال العقاب بمرتكبيها.

إن الجريمة قديمة قدم الإنسان ذاته، وتوجد في كل المجتمعات وفي كل العصور. وفي اعتقادي أن كل مجتمع يضم ثلاث طوائف أو أصناف من البشر، هم: الملائكة بطبعهم، وهؤلاء لا ينزلقون إلى مستنقع الجريمة، ولو كانوا في مأمن من العقاب. وطائفة الشياطين بطبعهم، وهؤلاء سوف يرتكبون الجريمة أملاً منهم في الإفلات من العقوبة، ويلزم بالتالي إنزال الجزاء المناسب بهم لزجرهم ومنع غيرهم من الاقتداء بهم. أما الطائفة الثالثة، فهي عموم الناس، وهؤلاء سوف يكون سلوكهم مستقيماً متى كانت قبضة السلطات قوية وكانت كلمة القانون حاضرة مطبقة على الجميع بلا استثناء.

وهذه الطائفة الثالثة تمثل الأغلبية في أي شعب، بينما تمثل الطائفتان الأولى والثانية نسبة قليلة جداً، لا يمكن بناء السياسة الجنائية والتشريعية عليها. ومن ثم، فإن تطبيق القانون على كل من تسول له نفسه الإساءة إلى أحد ذوي الهمم أو ذوي الاحتياجات الخاصة بدافع المزاح والضحك هو السبيل الأوحد للتعامل مع مثل هذه السلوكيات الإجرامية غير الأخلاقية. ولكن، لا يجوز أن تؤدي مثل هذه الحالات إلى أن نجلد أنفسنا أو نسئ إلى مجتمعنا. فالحقيقة الناصعة تشهد بأن الشعب المصري ذو حضارة راسخة وأخلاق سامية راقية.

ومن يذهب إلى المتحف المصري، سوف يجد الدليل الدامغ على عظمة هذا الشعب وعلى الأساس الحضاري له، وهذا الدليل هو تمثال «سنب» (Seneb) وزوجته «سنت» (Senet). فمنذ 4500 عام، تزوجت «سنت» الجميلة ذات الجسم الجميل المتناسق من «سنب» قصير القامة أو القزم حسب التعبير الدارج. ومن خلال هذا التمثال، سوف تلحظ أن الفنان الذي قام بنحت التمثال قد حرص على تفادي أي إساءة إلى «سنب»، من خلال تصويره قافلاً ذراعيه واضعاً ولديه تحت جسمه، حتى لا يلحظ أحد قصر قامته.

بقي أن أشير إلى أن هذه القصة بهذا الوصف قد استمتعت بسماعها من خلال مقطع فيديو منشور على اليوتيوب للمرشدة السياحية ذات الحس الوطني الراقي «بسنت نور الدين»، متحدثة فيه عن الحب والرومانسية في مصر القديمة. كذلك، يؤكد علماء الآثار أن المصريين القدماء كانوا يعاملون ذوي الاحتياجات الخاصة والأقزام باحترام وتقدير كبيرين، مدللين على ذلك بوجود الإله «بس»، وهو إله المرح والسرور عند المصريين، كما كان له دور في حماية الأطفال والحوامل والنائمين والأموات عن طريق طرد الأرواح الشريرة. وفي تعاليم امينيموب منذ أكثر من 3100 عام، يمكن أن نجد مثالاً آخر على نظرة وثقافة المصري القديم تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة بوجه عام وتجاه الأقزام على وجه الخصوص، حيث تقول: «لا تسخر من الكفيف، ولا تهزأ بالقزم، ولا تسد الطريق أمام العاجز، ولا تهزأ من رجل مرضها الخالق، ولا يعلو صوتك بالصراخ عندما يخطئ».

 

هذه هي مصر وستبقى دائماً عزيزة شامخة عظيمة بحضارتها، رغم أن البعض القليل من أبنائها ينزلقون إلى بعض التصرفات غير الحضارية. حفظ الله مصرنا الحبيبة من كل مكروه وسوء.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى