أيام مع عاشور
ناصر عبدالهادي
منذ أن وطئت قدماي نقابة المحامين، قبل رحيل النقيب خالد الذكر، الأستاذ الجليل أحمد الخواجة، بعدة سنوات، كانت النقابة، بعد خروجها من نير الحراسة ونارها، قد كبلتها المشكلات الناجمة عن ازدياد منتسبيها بصورة مطردة، وذلك بسبب تدني درجات القبول للالتحاق بكليات الحقوق، بل وزيادة كليات الحقوق نفسها قبل ذلك، وبالتالي باتت نقابة المحامين هي السبيل الوحيد أمام الدولة التي رأت فيها ملاذا للهروب من شبح مسئوليتها عن مستقبل الخريجين، وكذلك ملاذا للخريجين من شبح البطالة. فكانت نقابة المحامين للدولة والخريج بمنزلة باب، في ظاهره الرحمة وفي باطنه للنقابة العذاب. ولقد عجل ذلك بشيخوخة النقابة، وأصبحت كشخص بدين في ظاهره القوة، إلا أنه في حقيقته لا يقوى على سد حوائجه، وباتت عاجزة عن القيام بواجباتها حيال علاج السادة المحامين وأسرهم، وكذلك ظهرت مشكلة تدني المعاشات الخاصة بالسادة المحامين، وتجلى ذلك مع تغيير الدولة سياساتها واتجاهها إلى سياسة الخصخصة، وفتح الطريق بلا حساب أمام القطاع الخاص، وباتت الكلمة العليا لرجال الأعمال، ولا عزاء للطبقة الوسطى التي اندحرت تحت عجلات هذه السياسة، وكان بالطبع السادة المحامون ضمن أفراد الطبقة الوسطي.
رحل الخواجة ومرت الأيام بحلوها ومرها، الذي هو في ازدياد، وظلت المشكلات تتراكم. وقد وضعت الانتخابات أوزارها، وجاء عاشور نقيبا ومعه بعض ممن شايعه، فكرا وهدفا، والبعض الآخر كان ينتمي إلى التيار الذي اتخذ من الإسلام السياسي منهجا.
كان عاشور ينطلق في عمله وأدائه لواجبه من منطلق أيديولوجيته الاشتراكية التي تهتم بالطبقة المتوسطة أساسا، بل المهمشة، وهؤلاء كانوا الغالبية، فاصطدم ذلك مع التيار الآخر في المجلس، وكانوا آنذاك في مرحلة حاسمة بعد عملية المراجعات والتصالحات مع النظام والسماح لهم بالمشاركة النقابية.
قام عاشور بافتتاح وبناء وإعادة تجديد العديد من مقار النقابات والأندية الخاصة بالسادة المحامين في مختلف فرعيات الجمهورية، وبالمناسبة منها نادي محامي الفيوم، وهو قصر منيف، وكذلك طالب بزيادة رسوم أتعاب المحاماة، فقد كانت في الماضي خمسة جنيهات أمام المحاكم الجزئية، وعشرة أمام محاكم الاستئناف، فأصبحت خمسين جنيها للأولى، وخمسة وسبعين للثانية، علها تجابه ما يحتاج إليه المحامون وأسرهم من خدمات علاجية ومعاش، إضافة للنفقات الخاصة بالمقرات، وغيرها من أمور النقابة، كطباعة مجلات المحاماة، وأروب السادة المحامين وغيرها، وكان ذلك سببا في استمرار دور النقابة الخدمي والتكافلي.
لكن للأسف، لم يكن ذلك كافيا أمام غول الزيادة في أعداد المحامين، للأسباب التي ذكرتها سابقا. أيضا، زادت المعاشات وتضاعفت، لكنها أيضا لم تلب أو تجار زيادة الأسعار، وزيادة الاحتياجات، رغم أن ما تحقق آنذاك كان نجاحا لا ينكر.
زاد الانقسام بعد ذلك، وتردت الأوضاع، وتدخلت الدولة في انتخابات السادة المحامين من خلال الحزب الوطني آنذاك، الذي كان يخطط للإطاحة بعاشور ورفاقه، والسيطرة علي مقاليد نقابة المحامين. وتمت تحالفت سرية وتسريب إشاعات أدت في النهاية إلى نجاح الأستاذ حمدي خليفة نقيبا ورفاقه ممن ينتمون إلى الحزب الوطني، ومجموعة تيار الإسلام السياسي.
ونشهد ويشهد الغالبية بأنه في هذه الفترة ضعفت نقابة المحامين أمام جهات القضاء، فغابت شخصية المحامى وهيبته، وتبدى سوء الأوضاع في مشكلة محامي طنطا، وحدث ما سمي آنذاك بفتنة العدالة، وعاصرناها جميعا. وقتها فقط، شعر المحامون بقيمة ومعني عاشور.
وقد قامت ثورة يناير بعدها مباشرة، ولَم نر وجودا ملموسا آنذاك لمجلس الأستاذ حمدي خليفة الذي نأى عن الثورة تماما، بعكس عاشور الذي وُجد منذ الشرارة الأولي في الميدان كواحد من الشعب، فالتف حوله المحامون من كل حدب وصوب.
وبعد الثورة مباشرة، تمت الانتخابات، وجاء عاشور نقيبا، ولعل تلك اللحظة كانت فارقة في تاريخ عاشور. وهنا، تبدى الانقسام الواضح بين النقيب ورفاقه، وبين تيار الإسلام السياسي الذي بدا واضحا انحيازه إلى المعزول مرسي.
وأتذكر، وبعدما أثيرت قضية أتعاب المحاماة عند الهيئات القضائية والجهات الحكومية، أن المكتب التنفيذي لنقابة المحامين، وكان من أعضائه الأستاذ طوسون، والأستاذ أسامة الحلو، كان قد عقد لقاء مع السيد وزير العدل آنذاك، المستشار مكي، وخرج علينا بقرار أن النقابة ليس لها أية مستحقات طرف الجهات الحكومية، وقد أعلن ذلك القرار.
إلا أن السيد النقيب رفض ذلك تماما، وشكل لجنة من بعض أعضاء مجلس النقابة آنذاك، وأربعة من نقباء الفرعيات، واجتمعوا بالسيد وزير العدل مرة أخرى. وبعد ذلك، توصلت اللجنة إلى أن مستحقات النقابة لدى الجهات والوزارات الحكومية تصل لأكثر من مئتي مليون جنيه، بعد أن كانت هذه المبالغ ستضيع سدى.
ثم كان بعد ذلك، وفى أثناء وضع مسودة دستور ثورة يناير، طالب عاشور، ومن خلفه جمهور المحامين، بوضع المحاماة نصا في الدستور، ولَم يغب عن ذاكرة المحامين آنذاك مشكلة محامي طنطا. وبالفعل، استجابت الدولة آنذاك لطلبات السادة المحامين. وأتذكر أننا جموع محامي الفيوم ذهبنا إلى النقابة العامة، وقد كنا في الطليعة واعتصمنا. بعدها، لم تطل المدة، وبدأ حراك الشارع رافضا حكم الإخوان. ولقد وُجد عاشور منذ الشرارة الأولى في الميدان هو وجموع غفيرة من محامي مصر الشجعان، واستطاع بعد نضال، وقد كان أحد أعضاء لجنة الخمسين، وضع المحاماة نصا مرة أخرى في الدستور، بعد أن نادت بعض الأصوات برفع نصوص المحاماة من الدستور.
ولما كانت الزيادات التي تمت في المعاش لا تفي بالاحتياجات، ومنظومة العلاج في حاجة إلى تطوير، ومبنى النقابة العامة بات لا يليق بمحامي مصر، فكيف تحقق ذلك، والجدول مكتظ بأكثر من ٧٥٠ ألف محام، ولا تزال مطامع حملة شهادات التعليم المفتوح، وآخرين بالخارج، وآخرين يعملون بوظائف ومهن غير المحاماة، وهذا أمر مرفوض قانونا قبل أن يكون مرفوضا شكلا؟ فكان لا بد من اتخاذ قرار جرئ وعادل بأن المحاماة لمن يعمل بها فقط، حتى تستطيع حماية أبنائها وشمولهم برعايتها.
وقد تم اتخاذ القرار من أجل بناء مستقبل آمن للسادة المحامين وأسرهم، ومن قبل من أجل العدالة وكرامة المحاماة ذاتها، لذا صدرت قرارات التنقية التي نطالب بها منذ عقود.
البعض ممن جارت عليهم سيغضبون، وقد كان، ولكن نقول لهم: وفقوا أوضاعكم، ونقابتكم في انتظاركم. ولكن الخير كل الخير هو في مصلحة المحاماة والمحامين، ورفعة وكرامة المحامي، والنقابة، والوطن.
أرجو من الله ألا يغضب أحد، قد أكون قصرت، أو أخطأت، لكن المؤكد أنه من غير قصد.
بِسْم الله الرحمن الرحيم
“وَالْعَصْرِ  إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ  إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ”
صدق الله العظيم