أهمية التكوين اللغوي والتمكين المهاري للسادة القانونين (2) 

إعداد / الدكتور محمد عبد الكريم الحسيني المحامي

يمكننا إجمال القول في أهمية اللغة العربية بالنسبة للمحامي أنها عدته ووسيلته في أداء رسالته النبيلة  ، ثم إنه بالتعمق قليلا يمكننا الجهر على سبيل الحسم أن اللغة القانونية هي سبيل المحامي الوحيد وصراطه الفريد في تحقيق غايته من رسالته في تحقيق العدالة وسيادة القانون”، فهي قوامه الجوهري وزاده المادي في التعبير والتأثير والتواصل والاتصال  سواء بقضايا الناس أو بزملائه من عموم القانونيين في محراب العدالة، وهي جزءٌ لا يتجزأ من شخصيته وممارسته القانونيتين .

وبتكوينه اللغويِّ الجيد وتمكُّنه المهاري المتين يمكن له أن يمتطي صهوة جواده ويُحكِم قياده في الدفاع عن المظلومين بقلمه ولسانه، وبتكوينه وتمكينه اللغوي القانوني كذلك يتعزز مركزه وترتفع أسهمه، فيصبح حينئذٍ سيَّدَ مجلسه إن نطق ألقى بالدرر ، وإن سئل أفاض بالثمر ، تَستتبعُ حديثه الآذان وتتلقفه الألسنة وتعيه القلوب، ولله أبو العلاء المعريّ لما قال :

من الناس من لفْظُه لؤلؤٌ          يُبادرُه اللَّقطُ إذْ يُلفظُ

ومنهم منْ قَوله كالحَـصى            يُقالُ فيُلغى ولا يُحفَظُ

وعليه فإن لغة القانون هي أداة التعبير والتأثير :

أولا: أداة تعبير عن مكنون المحامي وشخصيته ومركزه واعتباره…

فمعارف اللغة العربية ومهاراتها هي مفتاح التعريف بالمحامي، وأداته المُثْلَى في التعبير عن شخصه باعتباره محاميا، إذ المرء مرهون بلسانه، ولغته كاشفةٌ لجوهره بما تحمله من رموز وتراكيب وصيغ وبنيان لغوي مرصوص يعبر عن سائر كيانه ونواياه وأفكاره ورؤاه …

إنَّ الكلامَ لفي الفؤاد وإنما            جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤادِ دليلُ

فباجتهاده في تحصيل معارفها، وبتمكنه من ضبط مهاراتها، وبحسن توظيفه لمسارتها، وتملكه لسياقاتها … يتبوَّأ صدور مجالس القانون …محظيا غير مغبون….وينال ما يليق به … ويحظى بما يصبو إليه ، ويدرك ما رامه من عالى المقامات ورفيع المكانات

والضد بالضد واقع … حيث إن الجهل بمعارفها والتنكر لمهارتها والصدوف عنها والاكتفاء بنَذْرها والكسل عن تحصيل فوائدها وفرائدها يؤدي إلى عُجمة البيان، وحُبسة اللسان ، ويجعل ملفوظ القانوني كالحصى أو كاللَّغوِ البارد …تتساقط معانيه قبل خروجه من فِيه ، فلا يصلُ إلى أذن سامعيه، وإن وصلَ فلا يُعتبر به ولا يُؤْبَه له …!!! ومن ثم لا ينال المحامي ما يستحق من التقدير والاعتبار، ويظل مبهما وموصوما بقلَّة العلم وبضحالة المعرفة وبسوقيته في مصطلحاته وعشوائيته في كلماته.

فهي والله خير زاد يتزود به المحامي للتعبير عن مكنونه ولفرض هيبته واحترامه على سامعيه وليلحق بركب سابقيه من الأصيلين المتمكنين :

1- فهي أداته في الاتصال والحديث القانوني الواضح والدقيق مع موكليه، من خلالها يمكن له مخاطبتهم وتبديد مخاوفهم وتوقيفهم على وضعهم القانوني سواء كانوا جناةً أو مجنيًّا عليهم …

2- هي وسيلته كذلك في التعبير عن شخصه القانوني من حيث مكانته وقيمته القانونية ، فكلما ثارت مسألة أو طرأ نقاش تجلت مكانته وبرز موقعه القانوني فيه، موفور المعرفة، عميق الفهم ملؤه علم وإفادة للآخرين؛ فيتطلعون إلى استشارته ويرنون إلى نصيحته ، ويطبقون ما يشير به عليهم من وصايا وتوجيهات قانونية .

ثانيا: سلاحه المضاء وأداته النافذة في التأثير على الآخرين من متقاضين وقضاة ومعنيين بالقانون

عمل المحامي يقوم على الفحص والبحث والتنقيب عن مصالح موكله القانونية إحقاقا للحق ونصرة للعدالة وهذا كائن على المستويين الشفوي والكتابي وهما مسارا عمل المحامي، وهلموا ننظر إلى أثر التكوين اللغوي والتمكن المهاري في هذين المسارين :

أ- على المستوى الشفهي

تعد الأعمال الشفاهية من صلب عمل المحامين، وهي تتنوع ما بين مرافعات ومداولات ونقاشات ومخاطبات إلى جهات القضاء بداية من جهات جمع الاستدلالات وجهات التحقيق ضعودا إلى مرحلة المحاكمة، حيث منصة التقاضي مع متعلقات ما سبق من محادثات ومراجعات لأمناء الشرطة وكتبة النيابة وأقلام المحضرين وقلم الكتاب، فضلا عن الشهود والخصوم والخبراء ….وفي جميعها تبقى اللغة ذات الأثر النافذ في النفوس …

وهكذا يصبح منطق المحامي الماثل في عباراته وأساليبة وتراكيبه وألفاظه وطريقة نطقه وأسلوب أدائه هو سبيله الفذ وأداته الوحيدة في التعبير والتوضيح والبيان والكشف التماسا لإنجاز أعماله القانونية في مراحل جمع الاستدالات والتحقيق على الوجه الأكمل انتهاء بأعماله الشفاهية أمام القضاء وفيها يبذل ما في وسعه ويجوِّد لفظه ويحسن أسلوبه…ويقدم ويؤخر… ويصل ويقطع… وينبر وينغم … ويتدفق ويتمهل … بحسب المقام ومقتضى الحال؛ لكي ينفذ إلى عقل القاضي …ثم قلبه ؛ فيُحدث ما أراد من تأثير في قناعاته وتغيير في عقيدته بما هو في صالح موكله .

وفي هذا السبيل ينبغي للمحامي أن يلم بمعارف ومهارات الأداء الصحيح والنطق الفصيح، وهي جملة مهارات يلتمسها في علوم اللغة من مثل :

 (1)مهارات اللغة الصوتية : وهي مستمدة من علم الصوتيات Phonetics ، وهو أحد العلوم العربية ومنه تستمد أحكام التجويد والقراءة القرآنية

وأهمها:

أ-مهارة النطق الصحيح للأصوات (لتجنب التأتأة والفأفأة والبأباة والعجمة والارتاج…وسائر عيوب النطق).

 ب-مهارات الأداء الفصيح حيث التألق اللفظي (اللياقة واللباقة اللفظية).

3-مهارات علم الصرف، وأهمها مهارة الاشتقاق والقياس اللغوي: ومهارة الاشتقاق خاصة من أهم المهارات اللازمة لكل قانوني، بل هي الغاية الأكبر من تعلم مهارات العلوم اللغوية (فبها يولِّدُ القانوني ما يشاء من الكلمات لما يشاء من المواقف) .

4-مهارات علم النحو وأهميتها تكمن في أنها توسع من مدارك المحامي وقواه الخطابية، وأهمها مهارة ضبط أواخر الكلم (الإعراب والبناء والتنوين …) ومهارة التكوين البنائي للجملة القانونية، تبعا للقواعد النحوية وتبعا للسياق المقصود إلى غير ذلك …وجدير أن نشير هنا إلى ما قاله علماء اللغة عن أثر النحو في طلاقة وبلاغة واعيه والمتمكن من مهاراته ..

إنَّما النَّحوُ قِياس يُتـَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــبَعْ        وبه في كلِّ أمر يُنتَفـــــــــــــــــــــــــــــــــعْ

فإذا ما أبصـــــــرَ النَّحو الفتى        مرَّ في القولِ مُرورا فَاتَّسعْ

5- مهارات علم البلاغة من خلال فروعها الثلاث أ-علم البيان. ب-علم المعاني . ج- علم البديع.

أ-مهارات علم البيان (الإفصاح والبيان) وأهمها مهارة التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة واستخدام التشبيهات والخيالات والتمثيلات البيانية ….. والتشبيهات البلغة والمعكوسة بحسب سياق الكلام ومقتضى الحال ، وذلك للإفصاح والتبيان ولتنبيه العقول وقرع الآذان.

والبيان من أهم خصائص الإنسان فهو كائن مُبَيِّنٌ أو مُبيِّن ويعبر المناطقة بقولهم :” إنسان ناطق ” ، وبغيره يكون أعجما مهينا وصدق الله في قوله:”الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) }”[ الرحمن] وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم فيما قال :” إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة” [أخرجه البخاري (5767)] وجمهور أهل العلم على أن ا لحديث حاء على وجه المدح للبلاغة وانظر [فتح الباري لابن حجر (14/ 409)]

ب-مهارات علم المعاني. من مثل توليد أساليب الكلام الخبرية والإنشائية والتبديل ما بينها وحسن استعمالها وقرع الأسماع بها وصوع الحقائق من خلالها وتكوينها وتعديلها تبعا للحاجةالقانونية لموافقة الكلام لمقتضى الحال، خلوصا إلى التأثير على قناعة القاضي لصالح الموكل .

ج مهارات علم البديع حيث (الإبداع اللفظي والإمتاع السمعي ) وأهمها مهارة حسن الاستهلال ولف الكلام ونشره والإبداع فيه بما يناسب الحال، لتشنيف الأسماع بحسن الصوغ وطرق الفلوب بجميل اللفظ، فالبديع إبداع في استخدام الاتباع والطباق وتجنيس الكلام ….

*نكمل في المقال التالي بإذن الله تعالى أهمية التكوين اللغوي على المستوى الكتابي وأعمال المحامي الكتابية .

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى